"المساء" في ضيافة المجاهد و العالم الجليل محمد الصالح الصديق

صناعة الإنسان أساس النهوض الحضاري

صناعة الإنسان أساس النهوض الحضاري
  • القراءات: 633
أحلام محي الدين أحلام محي الدين

إنتاج جيل مثقف ضرورة للنهوض بالبلاد والعباد 
تأكيد على توثيق العلاقة مع الخالق تعالى
الوقت أثمن ما  في الوجود ... به يصنع المجد والخلود

نزلت جريدة "المساء"، بدعوة من جمعية "القلم" للدعم المدرسي والترقية المعرفية والثقافية لولاية المدية، ضيفة على بيت العلامة محمد الصالح الصديق، في جلسة علمية، حيث نظم نادي طالبات جمعية القلم والمشكاة، زيارة تكوينية، حوارية معه، للاستفادة من تجربته في الحياة وخبرته في الاجتهاد والكتابة، لاسيما أنه بلغ 137 مؤلف، لم يتوقف عن العطاء حتى في أوج أزمة "كورونا"، وهو مريض، حيث قدم ثلاثة كتب، ليضرب مثلا قويا للكاتب المبدع والمجاهد الفذ الذي حارب الاستعمار بيد من حديد و«كورونا" بمؤلفات تشهد لعطائه. فقد قدم لضيوفه ،ومنهم قراء "المساء"، نصائح بوزن سنواته في العلم بكل ثقلها، مؤكدا على أن النجاح والتميز والرقي والنهوض بالبلاد والعباد، يقوم على توثيق العلاقة مع الخالق وحبه، ثم حب النفس والمحافظة عليها من كل ما يؤذيها أو يذهب كرامتها، وكذا الحفاظ على الوقت، لأنه أثمن شيء في الوجود وبه يصنع المجد والخلود.

تدخل هذه الزيارة، ضمن سلسلة الجلسات التي دأبت الجمعية على تنظيمها في برنامجها الراقي "نعم للجزائر علماؤها"، بغرض استفادة الطلبة والجيل الصاعد من نصائح الأساتذة والعلماء، ولأن العلماء أهل السخاء والشيخ محمد صالح الصادق نبع للعطاء، يعد نادي الطالبات لجمعية "القلم"، ناديا علميا ثقافيا أسس في 15 فيفري 2017، يؤطره مجموعة من الأساتذة والطالبات، يهدف إلى رفع المستوى العلمي الثقافي، وتشجيع ومكافأة الجهد الفكري الإبداعي، وكذا القيام بأنشطة علمية بحثية، وأخرى ترفيهية، كالزيارات العلمية والثقافية والمسابقات الفكرية، مع تنظيم دورات في مجالات مختلفة. أما نادي المشكاة، فهو ناد أدبي ثقافي تأسس سنة 2018، على يد مجموعة من الطالبات، بهدف ترقية المستوى العلمي، وتذليل الصعوبات التي تواجه الطالب مع اكتشاف مواهبه وتشجيعها، والمساهمة في تحسين المحيط والقضاء على المظاهر السلبية، مع الحث على العمل الخيري والتطوعي. ومن بين أنشطتها، إقامة محاضرات وندوات وأيام دراسية، إلى جانب الدورات التدريبية والبحوث والدراسات العلمية. ويؤطر هذه النوادي، أساتذة يحرصون على تقديم الخدمة لكل شرائح المجتمع ضمن النشاط العام للجمعية، وقد غنمت الطالبات بعد طرحهن للأسئلة على الشيخ، حيث كانت اجاباته ونصائحه غزيرة ومميزة، يمكن اعتمادها للفلاح في الدارين.

مسيرة حافلة بالجد والكد... بين طلب العلم والكفاح

اختار العالم الجليل محمد الصالح الصديق، المجاهد الفذ، المفكر، الأديب والفقيه والمؤرخ، أن ينفع زواره بفيض ما أتاه الرزاق من علم، ولا يزال يسعى إلى تقديم أعمال جديدة مد الله في عمره ووفقه ونفع بعلمه، وفضل أن تكون البداية بالتعريف بنشأته، وبداياته مع العلم وحرص والده، رحمه الله، على تعليمه، بداية من حفظه القرآن وختمه في ثماني سنوات وأربعة أشهر، يقول العلامة إنه ولد وترعرع بقرية أبي زار في تيزي وزو، نشأ في كنف عائلة عرفت بالتدين والعلم، بقرية إبسكرين، والده الشيخ البشير آيت الصديق، الذي وصفه بالعالم وجليس العلماء، وأصر على أن يجعل من ابنه عالما، وهو الحلم الذي راوده في شبابه وقبل زواجه، حيث سافر إلى تونس للتعلم وفي جيبه دراهم معدودة، ليتفاجأ بعد رحلة شاقة أن التعلم هناك يحتاج للمال، عاد إلى الجزائر، ومرض من سفره ذاك وتعبه، سبعة أشهر، رقد فيها في الفراش، وبعد شفائه قرر الزواج، منتظرا ميلاد الابن الذي سيحقق هذا الحلم العظيم. وقدم محمد الصالح، وتولى الوالد عملية التعليم، في البداية مع الحرص الشديد على تلقين الابن كتاب الله العظيم، الذكر الحكيم، حيث أرسله إلى زاوية سيدي منصور آث جناد، وقد فاز الطفل النابغة وأسعد قلب أبيه في الثامنة وأربعة أشهر، أتم حفظ القرآن وهنا ولأول مرة يقول العلامة: "سمح أبي لأمي فائقة الجمال، برفع صوتها لأول مرة في حياتها، لشدة غيرته عليها ... لتزغرد، لأن ابنها ختم القرآن". ومكافأة على هذا النجاح، خير الأب محمد صالح، بين أن يشتري له سيارة يلعب بها في فناء البيت، أو يصطحبه في رحلة للعاصمة، اختار الصغير الرحلة وكانت بوابة النصر والفلاح، يقول العلامة عنها إنها كانت رحلة مميزة وجميلة، أول مرة يرى فيها أشياء لم يكن يعتقد بوجودها، وهي الوجود الاستعماري، المنازل الجميلة التي تمنى مثلها ورزقه الله تعالى في عين المكان، وحيث طلب بالقبة، وهي من كرامات الله تعالى، أما أروع ما طبع الرحلة، حسب المتحدث، هو لقاؤه بالشيخ عبد الحميد ابن باديس الذي كان صديقا لوالده وخاله، العالم المجاهد الذي قتله المستدمر سنة 1956، والذي قال عنه: "يومها رأيت الشيخ ابن باديس في عز شبابه بلحيته السوداء الكثيفة، يمشي بخطى تتقد نارا لشدة حركته ونشاطه، فالناظر إلى لباس الشيخ المخملي الجميل يدخل في التناقضات، فهو يدل على الكسل، لكن لابسه كله نشاط وحيوية ... كنت أقف بعيدا قليلا عن والدي... بعدها رمقني الشيخ، وقال لمن هذا الطفل؟ .. هنا رد والدي الذي كان يفتخر بي كثيرا، وقال إنه حافظ للقرآن، اقترب مني الشيخ ابن باديس، ووضع يده على رأسي ... وقرأ الآية الكريمة كاملة "وكان فضل الله عليك عظيما". يقول العلامة: "قبل أن يضع الشيخ يده على رأسي، كان يعج بالصور التي شاهدتها في المدينة، كانت تتزاحم في فكري... فقد أخذت حيزا كبيرا في بالي ... لكن ما إن وضع يده على رأسي، لم يبق منها سوى الآية الكريمة وصورة الشيخ ابن باديس... لقد رزقني الله بركة دعائه لي". 

تلقى العالم الجليل مبادئ اللغة العربية في زاوية الشيخ عبد الرحمن اليلولي بجبل يلولة، وفي سنة 1946، سافر إلى تونس لإتمام الدراسة بجامعة الزيتونة الإسلامية، وتخرج منها بشهادة التحصيل سنة 1951م. وهنا أنجز كتابه "أدباء التحصيل"، وعن هذه المسيرة يقول: "كانت صعبة وشاقة، أكلت فيها الحشيش في زمن الجوع، ومررت بصعوبات كثيرة... وهنا قدم مفتاحا من نور للطلبة حول ماهية العلم قائلا: "كلمة علم متكونة من ثلاثة حروف (ع ) ومعناة عناء ومشقة، (اللام) ومعناه اللذة، أما (الميم) فهي الملك جل وعلا في عليائه، ينفع بعلمه ويزيد عباده (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)"، مؤكدا على أن للنجاح العلمي بعد المشقة لذة عظيمة، وهو ما يستوجب الصبر والكفاح من قبل طالبه والجد والكد لبلوغ الأهداف، مشيرا إلى أن للعلم لذته التي ينالها الطالب لاحقا، وتعوضه كل الحاجة التي مر بها.

عرض العالم محمد الصديق محطات من كفاحه النضالي، إذ انخرط العالم الجليل والمجاهد الفذ في صفوف جيش التحرير في العمل النضالي، وبعد أن كشف أمره من قبل الاستعمار وتعرض للاستنطاق سنة 1956، بقى صامتا، إيحاء بالحياد، يقول الشيخ: "هنا أخرج الضابط الفرنسي كتابي (مقاصد القرآن) ... تفاجأت بوجوده بين يديه وقال: "كاتب هذا ليس محايدا...نظر إلي ثم قال .. انصرف "اطلق سراحي، وهنا عمدت لقيادة الثورة لإنقاذي، من خلال إخراجي من الجزائر بوثائق مزورة، بعدما طلب مني إطلاق لحيتي، وعملت في الكفاح فحب الوطن من حب الله تعالى". يضيف "شاركت في الثورة من أول نوفمبر حتى الاستقلال، علما أنني عملت مع كل القادة، إلا العربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد".

مقومات البناء الحقيقية... اعرف الله ... أحب نفسك... وحافظ على الوقت

أكد الشيخ أن عملية البناء الحقيقي للذات والمجتمعات تنطلق من ثلاثة أسس، أولها حب الله تعالى بصدق وإخلاص، يقول: "اعرف الله معرفة حقيقية.. أحبه بصدق عميق، تشبث به .."، وضرب مثلا بمن يصلي، لكن يغش في عرض السلع قائلا، إنه ليس محبا لله، يقول: "متنوا العلاقة مع المولى وأحبوه، تعلقوا به تعالى، فشخصيا أمنت به وتمسكت به ونجحت به". يطرح الشيخ سؤلا في حيرة لا أفهم كيف يمكن أن يحدث التوفيق أو النجاح والشخص بعيد عن خالق الربح أو ضده؟ …لأن الأمر العظيم هو العلاقة مع الله، قووا أنفسكم بالله، لأنكم إذا أحببتم الله فقد نجحتم". أوصيكم؛ متنوا علاقتكم بالله، فهو يراقب ويأخذ بيد من يعمل وينصره".

أما المقوم الثاني، فيتمثل في حب الذات، يقول: "أحبوا يا أبنائي أنفسكم، فإن الطالب في الجامعة ولا يدرس، لا يحب نفسه، والشخص العاق لوالديه هل يحب نفسه؟ طبعا لا .. وكذلك السارق الذي يدخل السجن .. إنهم أشخاص لا يحبون أنفسهم، لذا فإن وصيتي لأبنائي، إذا كنت تريد أن تنجح في دنياك، فعليك أن تحب نفسك ولا تختر لها إلا ما يليق بها لدنياها وأخراها، فأنت إنسان فضلك الله بالعقل ... وهو سلطان الذات، به توجد الواهمة والحافظة والحس المشترك، فكل الأدوات بالعقل، لذا لابد من الاهتمام بالفكر.." يقول ناصحا: "احفظ القرآن، الشعر، اقرأ الكتب وتثقف وأعمل الخير، لأنه كلما عمل الإنسان الخير ارتقى، وأن لا نجعل الاهتمام فقط بالبطون، لابد أن لا نغفل عن الأساسيات، لأن صاحب العلم يهتم بالفكر". وتأسف العالم عن قلة الاهتمام بالفكر قائلا: "لأن للأسف، هناك اهتمام كبير بالجانب السفلي، كل ما تعلق بالطعام والنوم" منبها إلى أن الكتاب في حالة سبات، بسبب عدم الاهتمام به، وضرب مثالا بجلسة عرض كتاب التي تفاجئ صاحبه بالقاعة فارغة، وهو الذي كان يظن أنه ستمتلئ على آخرها، لاسيما أن كتابه "عن حياة الشيخ محمد الصالح النضالية والعلمية"، مؤكدا على ضرورة عمل الخير ومساعدة الغير.

أما الأمر الثالث، فيتعلق بالوقت، يقول: "إذا كنتم تريدون النجاح، فاحترموا الوقت، اعمل واطلب الله يسدد خطاك للنجاح، لابد أن يكون الوقت أغلى ما لديك ... يقول "للأسف نحن نعمل عل تضيع الوقت... وقتل الوقت لساعات في الجلوس، سافرت للاتحاد السوفياتي في 26 يوما، لم أر أبدا يوما امرأة لا تحمل بين يديها كتابا في انتظار القطار، قابلت وزيرا هناك سألني، ما الذي أعجبك في بلادنا؟ قلت لا تملكون مقاه، قال: "عندنا مقهى واحدة في موسكو، ليس بها كراسِ ... أي تشرب واقفا وتنصرف". يشرح: "لذا احرصوا أبنائي على عدم تضيع الوقت، لنكون مسلمين حقا، أي كن مسلم نظريا وعمليا. فلابد من العلم والعمل واحترام الوقت والتضحية كما ضحى الرجال بالأمس في سبيل الحرية،  للنهوض بالبلاد والعباد ، واحترام الإنسان، لأنه أصل كل شيء، فالنبي عليه الصلاة والسلام، عمل على بناء الإنسان".

تكريم وعرفان

يذكر أن جمعية "القلم" بمؤطريها وأساتذتها وطلبتها، عمدت لتكريم العالم الجليل في أجواء حفها كرم الضيافة والوقار والاحترام، إذ سلمت له شهادة شكر وتقدير وعرفان، نظير عطائه الممتد عبر السنين، كما كرمت صحفية "المساء"، أحلام محي الدين، التي سلمت لها شهادة شكر وتقدير، على أدائها المهني، شاكرين جريدة "المساء"، على جهدها الإعلامي المميز، حيث أكد جعفر بوشنافة، عضو بالجمعية: "أنه تم ترتيب اللقاء الذي يعد ضمن سلسلة اللقاءات العلمية لبيوت العلماء لفائدة الطلبة، بهدف التوسيع العلمي والسير على منهج العلماء".