مسجد سيدي قموش بقسنطينة

صرح بارز في الإصلاح.. حوّله المستعمر إلى ثكنة

صرح بارز في الإصلاح.. حوّله المستعمر إلى ثكنة
  • القراءات: 1067
شبيلة. ح شبيلة. ح

تُعد عاصمة الشرق الجزائري قسنطينة، مركز إشعاع ديني لما تتوفر عليه من معالم دينية قيّمة، تعود نشأتها إلى قرون وحضارات ماضية تعاقبت على المدينة، فشهدت مرور الزيانيين والأندلسيين والحماديين، ثم الحفصيين، وغيرهم من الذين تركوا بصمتهم التاريخية على المدينة، خاصة من الناحية الدينية، من خلال تلك الزوايا والمساجد التي ساهمت في إبراز الطابع الديني للمدينة بعد أن باتت محجا لعلماء الدين من كل الدول. 

غير أن جل هذه المساجد كان مصيرها إما الهدم أو الطمس أو التحويل من قبل الاستعمار الفرنسي، الذي حاول، بكل الطرق، ضرب الدين وطمس الهوية، فهدّم الكثير منها، وحوّل الباقي إلى كنائس وثكنات وإسطبلات ومستوصفات ومراكز إدارية، وأغلق بعضها، إلا أن الأمر لم يدم طويلا، "لينقلب السحر على الساحر"، وتحوَّل الكثير من الكنائس والثكنات العسكرية وغيرها والتي أقيمت وقت الاحتلال الفرنسي، إلى مساجد، حيث قامت السلطات المحلية في العديد من ولايات الوطن، بتغيير نشاط هذه الأخيرة، وتحويلها إلى مساجد يوحَّد فيها الله، سواء بقرارات من الحكومة، أو بمبادرات فردية من أشخاص. وحملت معظم الكنائس بعد تغيير ملامحها، أسماء علماء دين جزائريين. ولعل أول كنيسة حولتها السلطات المحلية إلى مسجد كانت بولاية سطيف، سُمي باسم العلاّمة عبد الحميد بن باديس بعد اتفاق مع الأسقفية الكاثوليكية المعتمدة بالجزائر، لتكون الخطوة بمثابة انطلاقة إلى خطوات أخرى مشابهة بعدد من ولايات الوطن.

ويُعد مسجد سيدي قموش من بين المساجد التي حاول الاستعمار إخفاء معالمها، لما كان لهذا الأخير من أهمية بالغة، فالمسجد الذي يقع بنهج بن عميرة في أحد الممرات الضيقة وسط مدينة قسنطينة، أُسس في القرن التاسع الهجري 15 الميلادي، لصاحبه الرجل الصالح سيدي قموش، الذي كان إنسانا صالحا وسط أهله رغم عدم وجود تاريخ كبير حول حياته، بحسب تأكيد أعيان المدينة. كما إن القليل من السكان من يعرفون أن المسجد يحتضن ضريح الشيخ بركات، جد العلاّمة عبد الحميد بن باديس.

وتعود قصة المسجد إلى أيام الاحتلال الفرنسي، الذي بمجرد دخوله إلى قسنطينة قام بالاستحواذ على عدد من المساجد، على غرار مسجد سيدي قموش، الذي ورثه الشيخ المكي بن باديس عن والده محمد كحول بن مناد، كغيره من الأوقاف بالمدينة. ففي سنة 1263 هـ ـ 1846 م، قامت السلطات الفرنسية بهدم المسجد، وتشييد مكانه ثكنة لجيوشها أو ما يُعرف بالقصبة حاليا، وكان فيه ضريح الشيخ بركات بن باديس، فلجأ الشيخ المكي بن باديس لإعادة اشتراء المسجد من السلطات الاستعمارية في الرابع ذي الحجة 1284 الهجري الموافق للعاشر سبتمبر 1868 الميلادي. وفي العاشر من ربيع الثاني 1307 الهجري الموافق للرابع ديسمبر 1889 الميلادي، قام الشيخ المكي بحبس المسجد وقفا لله عز وجل، وبعدها بشهر رُزق المكي بن باديس، بحفيده العلاّمة عبد الحميد في العاشر من ربيع الثاني 1307 هجري الموافق للثالث نوفمبر 1889 الميلادي.

وفي شهر صفر 1308 الهجري قام الشيخ المكي بنقل رفات جده الشيخ بركات نحو مسجد سيدي قموش. كما قام بدفنه في الطابق الأرضي. ولا يزال القبر هناك إلى يومنا هذا. أما في 1342 الهجري، فقد قام الشيخ محمد المصطفى بن باديس ببناء طابق علوي لمسجد سيدي قموش، الذي كان عبارة عن طابق أرضي ضيق لا يتسع للمصلين. وقد لعب مسجد سيدي قموش، حسب تأكيد مسؤولين من مديرية الشؤون الدينية والأوقاف بالولاية، دورا عظيما أثناء فترة النهضة الإصلاحية التي قام بها العلامة عبد الحميد بن باديس. ولايزال بالمسجد حتى اليوم، الكرسي الخشبي للعلامة عبد الحميد بن باديس، الذي كان يجلس عليه لتقديم دروس الوعظ والإرشاد. وقد زار المسجد علماء وفقهاء كبار، على غرار العربي التبسي، والإبراهيمي.

وقد كُتب على اللوح المعرف بالمسجد ما يلي: "هنا ضريح العالم المقدس الفضل المشهور بالعلم والأخلاق بركات بن باديس". وفي عام 1924 م قام الشيخ محمد المصطفى بن باديس بإضافة طابق ثان للمسجد، كان له دور كبير خلال النهضة الإصلاحية التي قام بها عبد الحميد بن باديس، حيث أدرجه في نظام دروس الجامع. وبعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس أدرجته جمعية العلماء المسلمين في منظومتها كملحقة لمعهد ابن باديس من 1945 إلى 1957. وفي أفريل 2002 أعيد ترميم المسجد بقرار من السلطات الولائية. وانتهت الأشغال في 27 أكتوبر 2003. ولم يغلق المسجد أبوابه منذ تسعة قرون، فلايزال منارة للعلم والهدى، ويعمره المصلون في كل الصلوات الخمس رغم صغر المصلى الذي لا يتسع سوى لخمسة وعشرين مصليا.