مبرّدات المياه في الشوارع والأحياء

صدقة جارية تفتقر للرقابة الصحية

صدقة جارية تفتقر للرقابة الصحية
مبرّدات المياه في الشوارع
  • القراءات: 2353
❊رشيدة بلال ❊رشيدة بلال

تعود مع كل صائفة ظاهرة وضع مبردات المياه بالشوارع وبالقرب من المحلات التجارية ومن أمام مداخل الأسواق والمساجد، وعلى الرغم من أنّ القائمين على هذه المبادرة الإنسانية لا يسعون من ورائها إلا كسب الأجر من خلال التصدق بشربة ماء باردة لكل عطشان دون أن يدفع أي مقابل، إلا أن افتقار هذه المبادرة الخيّرية إلى بعض المعايير الصحية تجعلها تتحوّل من نعمة إلى نقمة، خاصة إن كان من يقبلون على شرب الماء يستخدمون نفس الإناء ما يفتح المجال واسعا للإصابة بعدة أمراض أخطرها السلّ .

من منا لم يشدّ انتباهه وهو يتجوّل في مختلف شوارع العاصمة العدد الكبير لعبوات أو مبردات المياه المصنوعة من البلاستيك، مختلفة الأحجام والأشكال موزّعة في كل مكان، وضع إلى جانبها كأس مصنوع من المعدن أو البلاستيك يعلق بخيط ليتسنى لكل عطشان شرب الماء منه، هذه المبادرة التي لقيت ترحيبا كبيرا من المواطنين الذين تحدثت إليهم "المساء"، حيث أجمعوا على أنها مبادرة إنسانية وصورة من صور التضامن والتكافل الاجتماعي، خاصة وأنّ موسم الصيف يعرف بحرارته الشديدة، ومن ثمة فإن وجود مثل هذه المبردات يجعل إمكانية شرب الماء ممكنة في أي وقت خاصة بالنسبة لمن يتعذر عليهم شراؤه، أو شعروا بالعطش في أماكن لا تحوي على محلات لبيعه، فيما اعتبرها البعض الآخر من القائمين عليها من المتطوعين صدقة جارية، على غرار ما قام به مجموعة من الشباب المحب للعمل الخيري بساحة الشهداء، حيث بادروا منذ انطلاق موسم الصيف إلى اقتناء مجموعة من المبردات المائية ووضعوها تحت تصرف كل من يرغب في شربة ماء باردة، وفي السياق أكدوا أنهم يحرصون على ملئها بالماء البارد وتنظيفها بصورة مستمرة ولا يبغون من وراء هذا العمل إلا الدعاء من العطشان.

أحب الأعمال إلى الله سقي الماء

يرى الشيخ أبو كنان الجزائري إمام خطيب ومدرس في حديثه لـ«المساء"، أنّ مبادرة بعض المتطوّعين إلى التصدق بالماء أيام الصيف الحارة يعد من أفضل الأعمال عند الله عز وجل، هو ما دأب عليه المجتمع الجزائري منذ القدم إلى يومنا هذا، حيث تحوّل هذا العمل التطوعي إلى سنة حسنة، تعكس مبدأ التراحم والتكافل في المجتمع، خاصة في فصل الصيف، فتوفير الماء البارد لعابري السبيل وفي الطرقات والمحلات والمساجد له أجر وثواب عظيم لقوله تعالى "وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ" [الأعراف:50]، سئل إبن عباس رضي الله عنهما "أي الصدقة أفضل؟" قال "الماء، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة"، أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى "إن في هذه الآية دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال".

فسقي الماء، حسب محدثنا، صدقة جارية ينتفع بها الميت بعد موته، فعن سعد بن عبادة رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يا رسول الله، إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال "نعم"، قلت

«فأي الصدقة أفضل؟ قال "سَقْيُ الْمَاء" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، ويقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى مُعَلِّقًا على هذا الحديث "فدل على أن سقي الماء من أعظم القُرُبَات عند الله تعالى".

وفي السياق، أوضح الشيخ ابوكنان، أن سقي الماء أيضا يعتبر سببا لغفران الذنوب فقد روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»متفق عليه.

ومن جملة فضل سقي الماء، حسب محدثنا، ما ثبت عن سلفنا الصالح الذين كانوا يطلبون الشفاء من الله عز وجل بالتقرب إليه بأحب الأعمال إليه ألا وهو سقي الماء، فقد روي أن رجلا أتى إلى إبن المبارك يشكو له عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سَبْعِ سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع بما أعطوه، فقال له ابن المبارك: اذهب فاحفر بئرًا في مكان يحتاج الناس فيه إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ بإذن الله".

وإذا كان لسقي الماء فضل كبير، ففي المقابل، يوضح الشيخ ابو كنان، حذّر المولى عز وجل منع الغير من الانتفاع من فضل الماء بمختلف الطرق وشتى السبل، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» وذكر منهم: «وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ» متفق عليه.

مبادرة بحاجة إلى مراقبة وتأطير

الصيف تعدّ من أنبل الأعمال الإنسانية، وهي في ديننا الحنيف يقول "صدقة جارية"، ولكن يعلق "لا ينبغي لنا أن نغض الطرف عن بعض الممارسات غير الصحية التي تحول هذه القيمة الإنسانية إلى خطر صحي" ويشرح "حقيقة نحييّ المواطنين الذين يبادرون في كل صائفة إلى التصدق بالماء، غير أن ما يجب أن يعرفه هؤلاء المتطوعون أنّ العمل الإنساني حتى يكون أجره كاملا لابد أن يتم على أكمل وجه". وبالمناسبة يردف "لا نعمم على الجميع وإنما نخص بالحديث الذين يبادرون إلى ملء الدلاء بالماء وتعليق أكواب على جانبها بحسن نية من أجل تمكين العطشان من الشرب دون الاكتراث لبعض التفاصيل المهمة"، وفي المقابل يوضح "لابد أن يعرف هؤلاء أن من جملة ما يجب مراعاته هو أن تكون الدلاء صحية بتجنب البلاستيكية والاعتماد على تلك الزجاجية وأن يتم تنظيفها بصورة مستمرة، مع تفادي استعمال كوب واحد للشرب، وإنما تأمين الكؤوس البلاستيكية حتى يكون الاستعمال شخصيا وتفادي وضعها  تحت أشعة الشمس، خاصة إن كانت الدلاء مصنوعة من مادة البلاستيك، مشيرا إلى أن كل هذه الشروط للأسف الشديد يتقيد بها قلة قليلة، الأمر الذي يحول هذا العمل الخيري إلى مصدر مباشر وخطير لنقل الأمراض، خاصة إن كان يجري استعمال نفس الكأس لشرب الماء كون لعاب الفم يعتبر من أخطر  الطرق لنقل الجراثيم.

من جملة الأمراض التي يمكن أن تنتقل عن طريق مبردات المياه التي لا تخضع للشروط الصحية، حسب المختص في الصحة العمومية، مرض السل الذي يعتبر من أخطر الأمراض وأسرعها انتقالا، إلى جانب انتشار الجراثيم نتيجة استعمال نفس الكوب، فضلا عن أن البعض يلمس الكوب بيدين غير النظيفة، مشيرا إلى أن كل هذا يتطلب من الجهات المعنية ممثلة في المكتب البلدي المكلف بالنظافة التدخل لمباشرة الرقابة على مثل هذه المبادرات، موضحا أن الهدف ليس محاربتها وإنما تأطيرها من خلال توعية أصحابها إلى أهم الخطوات التي يجب التقيد بها حفاظا على الصحة العمومية.

وفي رده عن سؤال "المساء" حول دور وزارة الصحة أمام انتشار مثل هذه المبادرات غير الصحية التي تمس بصحة المواطنين حتى وإن كانت النية حسنة، أشار محدثنا إلى أن مثل هذه المبادرات يفترض أن تتصدى لها كل من مصلحة الوباء والطب الوقائي وكذا المعهد الوطني للصحة العمومية من خلال إرسال فرق تشرف على التوعية والتحسيس، ولكن للأسف الشديد يعلق "العمل الجواري للفرق الطبية يظل ضئيل في الميدان وما أحوج المواطنين اليوم للتحلي بالتربية الصحية".