روائح الأطباق الزكية تعبّق المنازل في رمضان

"شباح الصفرة" علامة مميزة للمطبخ القسنطينيِّ

"شباح الصفرة" علامة مميزة للمطبخ القسنطينيِّ
  • القراءات: 468
شبيلة. ح شبيلة. ح

يجسّد شهر رمضان الكريم فرصة جيدة للتعرف على عادات وتقاليد الأطباق الرمضانية في مختلف أرجاء الوطن؛ فكل طبق يحمل قصة ثقافية خاصة، تضفي لمسة مميزة على هذا الشهر الفضيل. ويُعد هذا الشهر مناسبة استثنائية، تزهر فيها موائدنا بأشهى الأطباق التقليدية؛ إذ تحرص العائلات القسنطينية مع حلول شهر رمضان المعظم، على إحياء عادات اجتماعية متوارَثة، لا سيما ما تعلق منها بإعداد بعض الأطباق التقليدية التي تميز الموائد الرمضانية، والتي لاتزال تحتفظ بمكانتها في التراث الثقافي الذي تشتهر به المنطقة؛ ما يعكس ثقافتها، وتاريخها العريق. 

فضلا عن الجانب الروحي الذي يميز هذا الشهر الكريم وما يصاحبه من مظاهر التكافل والتضامن، هناك عادات تضفي نكهة خاصة على هذا الضيف العزيز، وتميزه عن باقي شهور السنة. ومن ذلك استقباله بأطباق تقليدية مائة من المائة، خاصة الأسبوع الأول منه، فيما تلتزم وتشترك كل العائلات في طبق واحد، وهو "طبق الحلو" ؛ تيمّنا بشهر حلو، يحمل الكثير من الخير واليمن والبركة، والذي يختلف باختلاف الإمكانيات المادية لكل أسرة بالنظر إلى مكوناته.

"شباح الصفرة" سيّد المائدة الرمضانية

لايزال طبق "شباح الصفرة" يفرض نفسه بقوة، على موائد الإفطار في كل منزل؛ فقد أصبح، اليوم، علامة على المطبخ القسنطيني؛ لما يحتله الطبق من مكانة مهمة في التراث الشعبي القسنطيني؛ فقد كان ولايزال من عناصر فولكلور الطعام في مائدة شهر رمضان.

والطبق عبارة عن عجينة مصنوعة من 3 مقادير من اللوز المطحون ومقدار من السكر، وتُبل بصفار البيض. ثم تشكَّل باليد بمختلف الأشكال؛ كالنجمة، والهلال، والمثلث والمعيَّن. ثم تُقلى في الزيت بعد غطسها في بياض البيض، مرة أولى، ثم مرة ثانية. ويحضَّر مرق حلو، توضع فيه هذه الأشكال. ويُعد هذا الطبق من أفخر الطواجن الحلوة في عاصمة الشرق الجزائري.

تضاربٌ في الروايات حول أصل الطبق

وقد تضاربت الحكايات عن أصل الكلمة كذلك؛ فبعض المصادر تعيدها إلى أن طبق "شباح الصفرة" أقدم بكثير من وجود العثمانيين في الجزائر؛ حيث تفيد أهم وأقدم الروايات المتداوَلة، بأن عيشة باية ـ السيدة التي قيل إنها ابنة صالح باي في إحدى الروايات وفي روايات أخرى أخت الحاج العربي أحد الأعيان، وطلبها صالح باي للزواج، فرفض أخوها ـ هي التي قامت بتحضير حلوى بعجينة اللوز والسكر، غير أنها لم توفَّق في صنعها، فاهتدت إلى تشكيل العجينة بأصابعها، وبأشكال مختلفة. وقامت بصنع مرق حلو، ووضع الأشكال به، ثم وضعته على السفرة، فأبدعت في تحضيره.

وسُمي بهذا الاسم بعد أن أُعجب أبوها بالطبق الجديد، فقال لها: "شبّحتِ السفرة" ؛ بمعنى زيّنتِ المائدة، وصارت عامرة بهذا الطبق اللذيذ. ومنذ ذلك الحين شاع هذا الطبق في قسنطينة إلى يومنا هذا.

غير أن بعض الدارسين واللغويين ذهبوا إلى أبعد من الطبق، فتطرقوا للمعنى الحقيقي للتسمية، فقالوا إن المتمعن في تسمية هذا الطبق يلاحظ أن عبارة "شباح السفرة " أصلها "جِباح" بكسر الجيم وفتح الباء، وهو بيت النحل الذي تضع فيه عسلها، لكن العامة تُسكن الحرف الأول (الجيم) تجنبا للثقل، ومع مرور الزمن صارت الكلمة "شباح".  وبالنسبة لكلمة "الصفرة" ـ وهي وصف للكلمة الأولى ـ فأصلها يعود إلى لون هذه الأكلة القريب من صفرة الذهب والعسل، وعليه فإن هذا الطبق سُمي في الأصل "جباح الصفرة" وليس "شباح الصفرة"، غير أن التسمية الثانية ترسخت الآن، وشاعت.

أطباق تقليدية قديمة غائبة تظهر من جديد

وأيّاً كانت التسمية، فالثابت أنها اكتسبت شهرتها الواسعة ، ليس هذا فحسب، بل أصبح النسوة يُدخلن تعديلات على الطبق، ويزدنه جمالا، لكن بدون المساس بمقاديره الأصلية، بل ظهرت أطباق تقليدية قديمة أخرى بعدما كانت منسية؛ فبات طبق "طاجين الملوك" و«شباح الجوزي" و«طاجين العازب"، أيضا يزاحم شباح الصفرة لكن "لمن استطاع إليه سبيلا" بالنظر إلى مكوناته غالية الثمن. هذا الأخير، أيضا، كان يحضَّر في زمن الباي من طرف طباخ القصر "بن باكير"، والذي يُصنع بنفس طريقة "شباح الصفرة"، لكن المكونات تختلف؛ فبدل ثلاثة مقادير من اللوز المطحون، يتم استخدام مقدار من اللوز، وآخر من الجوز، ومثله من الفستق الحلبي، ولا يكون سوى على شكل دمعة.

كما يشهد تاريخ الطواجن الحلوة في قسنطينة، وجود "طاجين الزين" ، الذي هو مزيج بين "شباح السفرة والعازب"، تتوسطه إجاصة في الوسط، يتم ملء قلبها بالمكسرات بعد أن تُطبخ في شراب مسكر.  ولعل مبدأ تحضير مرق "طاجين الحلو" في جميع الوصفات، هو نفسه؛ حيث تبدأ ربة البيت بتقطيع اللحم ووضعه في طنجرة، مع إضافة السمن وعود من الفرقة وحبة بصل كاملة، وبعض شعرات الزعفران. تتركها على نار هادئة، مع تقليبها حتى يذوب السمن، ثم تمرّق بالماء، مع وضع مقدار من السكر يتناسب مع كمية الماء، وكمية من العسل، وتتركها تستوي. ثم تضيف ما تبقّى من المكونات، حسب الطبق المراد تحضيره.

رمضان فرصة للمِّ العائلات

ولكن تبقى كل هذه الأطباق التقليدية فرصة للمّ شمل العائلة. ففي الأيام العادية أصبح نادرا ما يجتمع أفراد الأسرة الواحدة على طاولة الطعام في وقت واحد؛ نظرا لاختلاف مواعيد العودة من المدارس والجامعات والأعمال، ولكل فرد في الأسرة جدوله الخاص الذي قد يمنعه من تناول الطعام في المنزل، أو يجبره على تناوله متأخرا عن سائر أفراد الأسرة. أما في رمضان فالوضع يختلف؛ لأن كل أفراد الأسرة يجتمعون في وقت واحد لا يمكن تأجيله.