تيبازة لؤلؤة الساحل الغربي للعاصمة
طبيعة ساحرة وحضارةٌ ضاربة في عمق التاريخ

- 789

يزخر الساحل الغربي للجزائر العاصمة، بميزات تجعل من طبيعته الخلابة واحدة من أجمل الوجهات التي يستمتع بها السائح المحلي أو الأجنبي؛ حيث يمتد الطريق الساحلي نحو قلعة من قلاع التاريخ والحضارة، ممثلة في "تيبازة"، التي أخذت مكانا بمحاذاة جبل شنوة؛ احتضنت الشواطئ الخلابة، والمعالم التاريخية الضاربة في عمق الزمن، فالخارج من زحمة العاصمة يستقبله الفضاء الرحب بنسيمه العليل، الذي حاولت "المساء" نقل لحظاته الجميلة في هذه الجولة.
انطلقت "المساء" في جولة قادتها على طول الساحل الغربي للعاصمة، نحو مدينة تيبازة الأثرية، وسط متعة القيادة عبر الطريق السيار الذي يحفه اخضرار الربيع الجميل، مرورا بزرالدة وبواسماعيل، وصولا إلى الضريح الملكي الذي ينتصب فوق هضبة شامخة مطلة على البحر الأبيض المتوسط؛ كحارس يسهر على بقايا حضارة مرت في زمن مضى من هناك، لتتواصل الرحلة إلى المدينة الأثرية الرومانية وسط مدينة تيبازة بشواهدها التي قاومت الزوال، وصولا إلى أعلى نقطة مطلة على زرقة البحر بجبل شنوة.
محطتنا الأولى كانت نحو الضريح الملكي، ذلك المعلم الذي يأخذ شكل "خلية النحل" العملاقة، والتي يلمحها الفرد على بعد كيلومترات من الطريق. وسيلته الوحيدة لتغذية فضوله هو التقرب أكثر من المعلم لاكتشاف جماله وسط تضاريس، شُقَّ خلالها طريق معبَّد وسهل الاستعمال، وهو ما جعل منه أحد المعالم التاريخية الشهيرة بالجزائر، والمصنفة ضمن محميات اليونسكو. طريقه المختصر سهل للعائلات والراغبين في استكشاف ذلك الموقع.
وبعد آخر منعطف يوجد مدخل كبير للوصول إلى الضريح، الذي شهد منذ سنوات، إعادة تهيئة؛ ما أعاد النضارة للمعلم الذي انطفأ نوره بسبب الإهمال الذي شهده، والأوساخ التي تراكمت حوله؛ مشاكل أدركها القائمون على تسيير المعالم الأثرية؛ الأمر الذي أعاد النشاط لتلك المنطقة، وجعلها من أهم الوجهات السياحية التي تستقطب الزوار من ربوع الوطن للاستمتاع بأجواء المكان.
جمال المكان يأسر زواره
ما أدهش "المساء" وهي تزور هذا الموقع الأثري، العدد الكبير للعائلات التي شكلت طابورا أمام مدخل الضريح، في انتظار الظفر بتذكرة للدخول بمبلغ رمزي 100 دينار رغم أنه كان يوما من أيام الأسبوع؛ أي أن الجميع مشغولون؛ فقد التحقت العائلات بالضريح الذي يدهش لكبر حجمه الناظر عند أولى خطواته في ساحته. وقد وُضعت على المدخل لافتته كبيرة، أوجزت نبذة تاريخية عن المعلم.
وتمت الإشارة إلى أنه معلم جنائزي دائري الشكل، شُيد على ارتفاع 261 متر على سطح البحر، بأعالي مدينة سيدي راشد على بعد 70 كيلومترا غرب العاصمة. محيط الضريح 185.5 متر. وقطره 60.9 مترا، بعلو بلغ 32.4 مترا. مبنيّ بحجارة يزيد حجمها عن 80 ألف متر مكعب. ويتكون من ثلاثة أجزاء أساسية؛ أولها قاعدة حجرية مكونة من ثلاثة صفوف، تعلوها أسطوانة حجرية كبيرة الحجم، ذات ثمانية صفوف. ويزيّنها 60 عمودا ذا طراز ايوني، يحمل تاجا مكونا من صفين من الحجارة.
ويشهد الضريح وجود أربعة أبواب وهمية مستطيلة الشكل، ارتفاعها سبعة أمتار، موضوعة حسب الاتجاهات الأربعة؛ صخرية وليست مفتوحة، تحمل نقوشا بارزة تظهر على شكل صليب. شكل الضريح المخروطي مكون من 37 دُرجا، تعلوه قمة أسطوانية حجرية.
ويتم الدخول إلى الضريح بواسطة مدخل سفلي موجود تحت البوابة الوهمية الشرقية. وهي في الواجهة المقابلة للمدخل. يؤدي ذلك المدخل إلى دهليز منخفض، يُفتح على قاعدة فسيحة تسمى ببهو الأسود؛ نظرا لوجود نحت بارزو بها أسد ولبؤة، وهما من الرموز الملكية المصرية قديما. ومن خلاله يتم العبور إلى دهليز آخر أو رواق ضيق منخفض، يؤدي، بدوره، إلى ردهة مستطيلة تمثل بداية رواق دائري طوله يزيد عن 80 مترا، وينتهي مباشرة إلى الغرفة الجنائزية الموجودة في قلب الضريح.
كل هذا لا يمكن الاستمتاع به بحكم إغلاق الضريح؛ لأسباب ـ كما قال القائمون هناك وحراس الضريح ـ أمنية، ومتعلقة بسلامة المتجولين من جهة، وسلامة الضريح، إلا أن أشغال تهيئة قريبة سوف تسمح بفتح باب الضريح أمام الزوار؛ لاكتشاف الجزء الداخلي من هذا المعلم، الذي يثير فضول الكثيرين لاستكشافه، وخاصة عشاق الأهرامات؛ إذ يمثل بالنسبة للبعض، دخولُ إحداها، حلما في انتظار تحوّله إلى حقيقة.
وعن تاريخ بناء هذا الضريح النوميدي، توجد العديد من الروايات؛ فبعض الروايات الرومانية تقول إنه بُني بعد 40 سنة من الميلاد، إلى عهد استيلاء الرومان على موريتانيا القيصرية، وهي المغرب الأوسط اليوم. أما أشهر رواية فهي أن الملك يوبا الثاني الجزائري الذي كان له ميول إلى الفن المعماري وفق التاريخ، من ولاية عنابة، وزوجته كليوباترا سيليني الثانية ابنة كليوباترا ملكة مصر الفرعونية، هما من أشرفا على بناء القبر الذي يُعرف اليوم أيضا، بقبر الرومية، وهي الرواية التي سُجلت على مدخل الضريح.
تفاصيل حكاية في رحلة خيالية
وجد الزوار هناك مساحة كبيرة للالتفاف حول الضريح، واكتشافه ركنا بركن. ولم يتردد البعض في أخذ صور تذكارية، ولمس الأحجار الضخمة من الضريح؛ في محاولة لفهم ما دارت من أحداث فيه، وتخيّل القوم الذين عاشوا قديما، وتكوين أفكار بعضها خيالية عن جمال ذلك المعلم.
أخذت بعض العائلات سلّتها من القهوة للجلوس بجانب المكان المطل على الساحل، بهواء عليل منسَّم برائحة البحر الجميلة. كما استظلَّ آخرون تحت أشجار الصنوبر، التي يمكن لقدم بعضها أن تروي للجالس هناك، رواية عما حدث في الحقب المتتالية من التاريخ..
الميناء الصغير مقصد عشاق الأسماك والجولات البحرية
انتقلت "المساء" بعدها إلى وسط مدينة تيبازة، ولم تفوّت فرصة النزول إلى الميناء الصغير الذي تحيط به بعض المطاعم الشهيرة؛ بتقديمها قائمة متنوعة من الأسماك الطازجة التي تداعب رائحتها المارة.
صيادون يتعاملون، مباشرة، مع أصحاب المطاعم. الكثير منهم مصطفّون على طول ضفاف الميناء، ليخلق ذلك جوا من المنافسة لبيع أشكال وأنواع من الأسماك التي تعكس ثراء البحر الأبيض المتوسط.
من جهة أخرى، يُسمع نداء وأصوات بعض أصحاب السفن الصغيرة، والزوارق الترفيهية التي تقدم خدمة للزوار بخرجة إلى قلب البحر. يصل بعضهم إلى أحد شواطئ الأطلال الرومانية المجاورة مقابل أسعار تتراوح بين 1500 دينار و2500 دينار لشخصين؛ متعة تتقاسمها العائلات هناك بوجود جو ملائم، وهدوء بحر مثالي لجولة ممتعة، تجمع بين زرقة المياه والطبيعة المحيطة هناك.
وغير بعيد يوجد رواق محاذ للميناء. وعن يمينه وشماله عدد من المطاعم التي رُسمت على واجهاتها أسماك بمختلف الأحجام والأشكال. وعلى طوله تتربع أشجار كثيفة عبر ذلك المعبر، خلقت ظلا مميزا في عز النهار. وفي نهاية ذلك الرواق تجد عددا من الحرفيين، ومحلات لبيع التحف التي صنعت جوا مرحا في الساحة الدائرية؛ ما يسمح للزائر باقتناء قطع تذكارية هناك؛ بين مجوهرات، وحقائب جلدية، ومجسمات لبعض المعالم هناك، وألواح فنية، وغيرها من القطع، في حين عرضت المحلات تحفا فنية من العصر القديم، بعضها مترهل وقديم إلى درجة يُمنع، تماما، لمسها؛ خوفا من إصابتها بضرر، أو حتى حمل عدوى من بكتيريا؛ لقدمها، وأوانيَ، وزرابيَّ، وصناديق خشبية، وأثاثا من الخشب رفيع النوعية، بتصاميم وموديلات تبعث بالبعض إلى قرون قديمة، تعكس هوية الحضارات التي مرت بالمنطقة.
ومرة أخرى، يقابل الزائر باب آخر، وهو مدخل الأطلال الرومانية القديمة؛ تلك الآثار المعانقة لزرقة البحر، وهي واحدة من المعالم الأثرية الخلابة التي تستقطب الكثير من السياح؛ كونها متحفا رائعا، مفتوحا على الهواء الطلق الذي يستهوي محبي البحر والاستكشاف للاستمتاع ببقايا الحضارة الرومانية، والتقاط أجمل الصور التذكارية التي تعود إلى فترات من التاريخ القديم.
وتجمع هذه الأطلال عددا من المواقع التي تُعد الأفضل على الإطلاق في شمال القارة الإفريقية، مازال الكثير منها في حالة جيدة وواضحة؛ أهمها سور المدينة، والمدرّج الروماني، والكثير من المعابد، والصالونات الملكية، ومخازن المؤونة، ومراكز الدفاع، وغيرها من المعالم التي تروي تاريخ تأسيس مدينة تيبازة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط.
تبعثرت العائلات هناك. وضاع الكثيرون بين أحضان تلك الأطلال؛ بعضهم احترم مسار الطريق الرئيس، في حين اختار آخرون المغامرة في المكان الشاسع الجميل. أبعد ممر هناك أخذ إلى شاطئ بتلك الإطلالات. لم يتردد بعض الصغار في ممارسة بعض القفزات في الماء رغم برودة الجو، في سبيل الاستمتاع بالأجواء الجميلة.
جبل شينوة.. الجمال الصامت
بعد فترة من المتعة والترفيه تقاسمناها مع العائلات، شد انتباه "المساء" في طريق العودة، بهجة النظر إلى جبل شنوة المطل على ضفاف الساحل الغربي. مناظر رائعة!
وبالرغم من عدم وجود محطة خاصة إلا أن مستعملي الطريق خلقوا مساحة لركن سياراتهم هناك، والاستمتاع بواحدة من أجمل الإطلالات بالمنطقة؛ بُعد بصر لا حدود له، بنايات من قلب المدينة، وزرقة البحر التي تداعبها بعض زوارق وسفن التنزه، تخلق صورة كلوحة فنية متفانية، وبطاقة بريدية جميلة.
استغلّ بعض باعة الشاي والمكسرات هناك، الفرصة لحط رحالهم كل عشية، وتقديم خدماتهم للمتوافدين على الجبل؛ منعرجات تنهي في مسلك إلى قلب منطقة سكنية، محظوظ أهلها بإطلالاتها الرائعة على البحر.
طبيعة ساحرة وحضارةٌ ضاربة في عمق التاريخ