الترانيم

زوال إرث اجتماعي ساهم في تنشئة الأطفال

زوال إرث اجتماعي ساهم في تنشئة الأطفال
  • القراءات: 1262
وردة زرقين وردة زرقين

تعتبر الطفولة في كل الأزمنة والأمكنة القبلة الأولى التي تتجه إليها كل الجهود التنموية، لأن حضارات الأمم تقاس على أساس ما تخصصه للأطفال من تربية وتنشئة صحيحة وسليمة، ومما لا شك فيه أن «ترانيم» المهد والهدهدة هي بمثابة الإطلالة الأولى للأطفال على عالم المعرفة، وهي التي تغرس في الأعماق الكثير من القيم والأخلاق الحميدة والعادات والتقاليد.

تراجعت هذه الترانيم في مجتمعنا بشكل كبير عن استغلالها بسبب طغيان وسائل التكنولوجيا الحديثة، واهتمام المرأة بعالم الشغل وانتشار ظاهرة الحاضنات اللواتي يقتصر دورهن على حراسة الطفل، وغيرها من الأسباب الأخرى التي أدت إلى زوال هذا التراث الشعبي الذي سيختفي تماما في المستقبل، إن لم تكن هناك مجهودات لإحيائه واستغلاله في تربية الأطفال. «المساء» تواصلت مع مختصين ونقلت لكم أراءهم في الموضوع. 

تقول سميرة بعداش، طبيبة نفسانية بمستشفى «زيغود يوسف» في قسنطينة، بأن «الترانيم أساس التكامل الجسدي والتوازن النفسي للطفل، فهي عبارة عن مجموعة من الأغاني التي يرددها الكبار، سواء الأم أو الجدة للأطفال الصغار»، ولها تأثير كبير ودور فعال في نفسية الطّفل، حيث يشعر من خلالها بالحنان والأمان والاهتمام من طرف الأم. كما تقوّي الجانب العلائقي بينهما عن طريق التواصل، فيتعلّم الطفل اكتساب اللغة بسرعة وفي سن مبكر، وتزيده الثقة بالنفس واكتشاف ما حوله.

وتضيف المتحدثة أن هذه الترانيم تنمي خياله وقدرته على الانتباه والاستيعاب وتطور الملكات العليا للذهن كذاكرة السمع وسرعة الإدراك، وتشعره بأنه محبوب، مما يزيد من تفاعله مع الآخرين.  أما من ناحية النوم، فهي تساعد الطفل على النوم المريح الذي يساهم بشكل كبير في النمو الجسمي والعقلي لديه.

وعن محل الترانيم واستغلالها في وقتنا الحاضر، تؤكد الطبيبة النفسانية أنها اندثرت وأصبحت شبه منعدمة في المجتمع الجزائري، وأرجعت الأسباب إلى الأخطاء في تربية الطفل وتنشئته على أنماط خاطئة.

علاوة على طغيان استغلال وسائل التكنولوجية الحديثة واستغلالها استغلالا عشوائيا، مثل الكمبيوتر ومشاهدة الطفل للتلفاز في أشهره الأولى، وتفرغ الأولياء، خصوصا الأم، لأولويات أخرى كالعمل أو الرحلات أو الخروج، دون وعيها بالعواقب المترتبة عن  هذه التربية الخاطئة والمتمثلة في انطواء الطفل وانعزاله عن المجتمع. مما يؤدي إلى التأخر في اكتساب الخبرات، كاضطرابات اللغة وعدم الثقة في النفس واضطرابات السلوك، كطيف التوحد مثلا. هذه الحال تولد عند الطفل الشعور بعدم الأمان وغيرها من أنماط السلوك السلبي، فكل سن معيًن يقتضي نمطا معينا من التربية.

وفي هذا الإطار، توضح المتحدثة أنه توجد ترانيم متعلقة بالتسلية وأخرى دينية كالتسبيح، حسب العمر الزمني والعقلي للطفل. مضيفة أن الجانب القصصي بشكل نسبي يلعب دورا في تنمية ذكاء وخيال الطفل، عن طريق توعية الأمهات بدور هذه الترانيم  الفعال في تطوير التواصل الذي يزيد ثقة الطفل بنفسه وينمي ذكاءه.

وعن النظرة المستقبلية لهذا الموروث الثقافي الشعبي الذي لعب  دورا كبيرا في تنمية الطفل واستغلاله في السابق استغلالا كبيرا، تقول السيدة بعداش بأن الترانيم ستنعدم تماما في المستقبل، إن لم يكن هناك تواصل الأولياء بأطفالهم، خاصة بعدما أصبحت أغلبية الأمهات عاملات ليس لهن الوقت الكافي لمداعبة أبنائهن. وعوض أن يتواصلن مع أطفالهن عن طريق الترانيم، يتركنهم مع التلفاز والهاتف النقال اللذين سيؤثران سلبا عليه.

تدعو الطبيبة النفسانية الأولياء إلى منح الوقت الكافي لهذه البراءة، وأن لا تكون التربية حكرا على الأم وحدها. كما يجب أن يكون للأب دور في إعطاء قسط من الحنان من أجل تنشئة سليمة للأطفال، ومنه بناء التكامل الجسدي والتوازن النفسي لهم، خاصة أنهم أغلى نعمة في الكون وزينة الحياة الدنيا.

الترانيم تقوي علاقة الطفل بالأم

من جهتها، تقول الدكتورة مسعودة لاريت من جامعة تيزي وزو، من منطلق بحث لها، بأن الترانيم لعبت دورا هاما في غرس الأخلاق والدين في نفوس الأطفال في المجتمع الجزائري، خاصة أنها تحث على مبادئ وقيم دينية وأخلاقية في قالب مدائح.

وأضافت أن ترانيم المهد والهدهدة تؤدي بطرق مختلفة ومتعددة إلى التنويم والمداعبة، منها طريقة وضع الطفل في المهد، ووضعه في حضن الأم وكذا طريقة حمله على الظهر.

فيما تكمن أهمية ترانيم المداعبة في إبعاد فشل نوم الطفل واستيقاظه، على عكس ترانيم النوم التي تسعى الأمهات عند أدائها إلى تنويمه وتسهيل النعاس عليه. كما تؤدي ترانيم المداعبة إلى تحقيق النمو السريع من حيث التكامل الجسدي والتوازن النفسي. مشيرة إلى أن الترانيم تؤدي إلى تمتين الصلة بين الطفل وأمه، خاصة في هذه الفترة الحساسة والمعقدة من حياته.

كما أن هذه الترانيم تحيل إلى نمط المعيشة والواقع الذي يعيشه الإنسان ضمن حياته الاقتصادية والاجتماعية، وتعتبر بمثابة دروس تتلى على الأطفال في مرحلة مبكًرة من عمرهم من قبل أمهاتهم أو جداتهم. وفي هذا الصدد تدعو الدكتورة مسعودة لاريت إلى استغلال الترانيم التي هي في طريق الزوال والعودة إلى إحياء ذاكرة الجدات في تربية وتنشئة الأطفال تنشئة سليمة لأنهم رجال الغد.