امرأة آمنت أن البحر ليس حكرًا على الرجال
زليخة مهناوي.. أول جزائرية تقود حملة صيد التونة

- 183

عشية انطلاق حملة صيد التونة، وفي ركن هادئ من الميناء، وبين ضجيج التحضيرات التقينا بالمفتشة زليخة مهناوي. كانت تضع اللمسات الأخيرة على تجهيزاتها، تنسق أدواتها بدقة وهدوء، بينما تعلو وجهها ابتسامة دافئة، تحمل بين تفاصيلها قصة طويلة... سرّ لم تُفصح عنه من قبل.
زليخة امرأة في العقد الرابع من عمرها، لم تكن مفتشة تُمارس مهنتها فحسب، بل كانت روحًا مشبعة بالشغف والاصرار. خصّت "المساء" بحديث استثنائي، دام ساعة من الزمن، اصطحبتنا فيه إلى محطات من حياتها، حيث الحلم والتحدي فالانتصار.
السرّ الذي أخفته خلف تلك الابتسامة لم يكن سوى حلم طفولة، بأن تكون يومًا ما جزءًا من هذه الحملات البحرية الكبرى. واليوم لا تشارك فيها فقط، بل تقودها بثقة وكفاءة، لتكون قصة نجاح تُلهم كل امرأة تطمح إلى كسر الحواجز وخوض غمار الميادين التي طالما كانت حكرًا على الرجال.
في مدينة عنابة، حيث تتعانق الطبيعة بجمالها بين البحر والجبال، وُلِدت ونشأت زليخة مهناوي. مفتشة بمديرية الصيد البحري لولاية عنابة، امرأة جزائرية آمنت أن البحر ليس حكرًا على الرجال، وأن المغامرة أنثى إن امتلكت العزم والعلم. لم تكتفي بالمراقبة من الشاطئ، بل اختارت أن تخوض غمار التحدي في ميدان ظلّ حكرًا على الذكور لعقود. بإصرارها وكفاءتها، كتبت اسمها كأول مفتشة جزائرية ترافق حملة صيد التونة في عرض البحر، وسط طاقم رجالي، وعلى متن سفينة مخصصة للمهام الكبرى.
كان ذلك في عام 2020، العام الذي اجتاح فيه الخوف كل الموانئ، وتقلصت فيه الخطى تحت وطأة جائحة كورونا، حينها اختبأ كثيرون وعلّقوا أحلامهم على شماعة الظرف الصحي، إلا أن زليخة رأت في ذلك الفراغ فرصة لا تُعوّض. طرقت باب مديرها السابق، مدير الصيد البحري السيد عمارة عمي، واقترحت عليه بجرأة أن تكون أول امرأة تلتحق بسفينة صيد التونة كمفتشة، خطوة غير مسبوقة، اتخذتها بإيمان داخلي وهدوء من يعرف وجهته جيدًا.
لم تتردد زليخة، بل اقتنصت اللحظة، مستندة إلى دعم والدها رؤوف، الذي آمن بقدراتها منذ نعومة أظافرها. لم يكن والدها سندا عاطفيا فحسب، بل كان أول من قرأ في عينيها شغف البحر، فزرع فيها الثقة، ورافق خطواتها بنصيحة الحكيم وتشجيع المؤمن بموهبة ابنته. كان متأكد أن المرأة قادرة على خوض غمار التحديات مهما بلغت قسوتها، فكان حضوره في مسيرتها حافزًا حقيقيًا، جعل من الحلم مشروعًا واقعياً يتجسد وسط أمواج المتوسط، على متن سفينة لا مكان فيها للصدفة، بل للكفاءة فقط.
«يا ليت الحلم يصبح حقيقة"، كانت ترددها زليخة، كلما رأت سفينة تنطلق من الرصيف، محمّلة برجال البحر وخبراتهم، فيما كانت هي تكتفي آنذاك بإجراءات التفتيش على اليابسة، لكنها اليوم تعرف كل شيء، معدات السفينة، أجهزة الملاحة، نبض الطاقم، وحتى سلوك أسراب التونة في عرض البحر.
رغم خطر البحر، الظلام الحالك ورهبة المجهول، لم تتراجع. حملت حقيبة عزيمتها، وانطلقت في أول تجربة بحرية لها وسط طاقم يملؤه الحماس. خاضت الرحلة الأولى بثقة خجولة، لكنها سرعان ما نمت في قلبها امرأة لا تعرف الانكسار. لم تعد تقف على السفينة كمراقبة فقط، بل كشريكة حقيقية في القرار، كخبيرة تونة تُدرك حركة البحر، وتشارك الربان اختياراته.
لكن الإصرار وحده لا يُثمر، لولا وجود من يؤمن بك ويدفعك إلى الأمام. وهنا جاء دور مدير الصيد البحري، السيد رميتة نورالدين، الذي لم يكن مسؤولا إداريا، فحسب، بل مشجعًا حقيقيًا اقتنع بمشروعها. لقد لمس شغفها وصدّق قدراتها، فكانت كلماته وثقته دافعًا جعلها تشعر أن البحر، مهما كان عميقًا، يصبح أكثر أمانًا حين تمتد يد القيادة دعمًا لا تثبيطًا.
زليخة لم تكن فقط امرأة كسرت الصور النمطية؛ بل كانت حلمًا يتحرك بثبات، برهنت أن النجاح لا يعرف جنسًا، بل يعرف الإرادة، والدقة، والتفاني في العمل. خمس سنوات قضتها بين الأمواج والتقارير، بين أمطار البحر وتعليمات الوزارة، حتى باتت مرجعًا يُستشار وصوتًا يُسمع، ومصدر إلهام للنساء المقبلات على ميادين كانت، حتى الأمس القريب، مقصورة على الرجال. تقول زليخة: "الوقت في البحر ضيق، كل لحظة عمل، لكن كل التعب يذوب حين أرى امرأة أخرى تتقدم بخطوةٍ واثقة مثلي".
واليوم، في الموانئ الجزائرية، تقف نساء متزوجات، يحملن بين أيديهن أطفالًا وأحلامًا، ويتهيأن لحمل مشاعل الأمل، فزليخة لم تفتح فقط بابًا لنفسها، بل شرّعت أفقًا كاملًا لكل من تؤمن أن البحر يتسع للجميع، وأن الريادة لا تصنعها الظروف، بل تُصنع بالإرادة.