فراش الذهب العنابي

ذاكرة مطرَّزة بخيوط الفتلة وتقاليد لا تُنسى

ذاكرة مطرَّزة بخيوط الفتلة وتقاليد لا تُنسى
  • 123
سميرة عوام سميرة عوام

تلمع خيوط الذهب على وقع أعراس الزمن الجميل. وتُطرَّز بعناية أنامل النساء في مدينة عنابة، لترسم "فراش الذهب العنابي" ؛ أيقونةً من التراث الحي، الذي لايزال يحتلّ مكانته الفريدة في جهاز العروس، ويُزهر في ليالي العمر كشاهدٍ على هويةٍ ضاربةٍ في عمق التاريخ، وذوقٍ متأصّل في نساء المدينة.

يتجاوز فراش الذهب كونه غطاءً فخما أو زينة موسمية، ليغدو جزءاً من وجدان العروس العنابية. إنّه حضورٌ رمزيٌّ للدفء، والحنان، والاعتزاز بالانتماء، وواحد من أبرز مفردات الأعراس التقليدية، التي تَجمَع بين البهاء والبساطة، وبين الصناعة اليدوية والدلال الاجتماعي.

وفي الأصل، يُطرَّز هذا الفراش بخيوط من الفتلة الذهبية أو النحاسية على قماش القطيفة، الذي عادةً ما يكون بلون عنابيّ غامق، أو ألوان ملكية أخرى؛ مثل الأزرق الليلي، أو الأخضر الزمردي. 

وتنفرد كل قطعة برسمات زخرفية مختلفة: من أشكال الورود والطيور، إلى الرموز المستوحاة من العمارة الإسلامية، والنقوش الأندلسية. 

وتُصنع كل وسادة ومفرش بدقّة وعناية، لتُشكّل معاً لوحة تراثية ساحرة، تتوارثها الأمهات والبنات جيلاً بعد جيل.

إرث من الخيوط والروح

كانت جدّات عنابة يبدأن تجهيز هذا الفراش منذ أشهر، بتأنٍ وطقوس خاصة. وكانت العروس تفخر بعرضه أمام جاراتها وقريباتها، ضمن طقس "عرض الجهاز"، الذي يتحوّل إلى عرض فنيّ مصغّر، يحكي ذوق العائلة، ومكانتها. 

وكان يُقال إن فراش العروس يعبّر عن شخصيتها؛ فكل زهرة مطرّزة، وكل خيط ذهبي له دلالة.

ولاتزال "الماشطة" – تلك المرأة المبدعة المتخصّصة في الطرز والتزيين – تحتلّ مكانة مرموقة في المجتمع العنابي، فهي الحارسة على فن الطرز بالفتلة، وصاحبة العين التي تختار، واليد التي تُبدع. 

وبعض الماشطات يتعاملن مع الفراش كعمل فنيّ خالص، فيجمعن بين الأصالة والتجديد، ويُدخلن لمسات حداثية دون أن يمسسن جوهر التراث.

فراش يتخطى حدود المدينة

لا يقتصر حضور هذا الفراش في أعراس عنابة فحسب، بل أصبح قِبلةً لعرائس من ولايات مجاورة مثل الطارف، وقالمة، وسوق أهراس وحتى قسنطينة، ممن يطلبن "الذوق العنابي" في فراشهنّ. 

بعض الماكينات العصرية قد ساهمت في تسهيل بعض مراحل التطريز، لكن القيمة لاتزال محفوظة لمن يُصرّ على الطرز اليدوي، وعلى التوقيع الأصيل بأنامل نساء عنابة.

بين الماضي والحاضر... رسالة ثقافية

ما يُميز فراش الذهب أنه لا يُخزَّن فقط في صناديق العرائس، بل يُعاد إحياؤه اليوم من خلال معارض التراث، وورش الطرز التي تُنظّمها الجمعيات الثقافية. 

وتشارك في هذه الورش نساء شابات، بدأن يَفهمن جمال هذا الفن وقيمته، ويكتشفن فيه سبيلاً لربط الحداثة بجذور الهوية. بعضهنّ يحترفنه كمصدر رزق. والبعض الآخر يراه وسيلة للتعبير الفني.

وفي هذا السياق، تقول السيدة "فتيحة س«، ماشطة تقليدية منذ أكثر من ثلاثين سنة: "أنا لا أطرّز فقط وسائد... أنا أطرّز ذاكرة، أطرّز حبّ العرائس لمدينتهن، وأحافظ على ما تركته لي أمي وجدّتي".

فراش الذهب بعنابة لا يشيخ

في زمن تسارعت فيه مظاهر الأعراس ومالت الأذواق نحو المستورد، ظلّ فراش الذهب العنابي وفيّاً لجماليته، وخصوصيته، يحضر بصمت، لكن بأناقة. 

إنه ليس من الماضي، بل من الحاضر الذي يحمل بصمة الجدات، ونبض البنات، ورجفة القلوب العاشقة لعنابة وتقاليدها.

ومن يلمس هذا الفراش لا يلمس قماشا فحسب، بل يلامس تاريخا، ويقرأ قصيدة مطرّزة بحبّ، تصمد أمام عواصف التغيير، وتبقى راسخة كوسادة من ذهب في ذاكرة المدن.