الصناعات التقليدية في عنابة

ذاكرة حيّة وهوية متجددة

ذاكرة حيّة وهوية متجددة
  • 266
سميرة عوام  سميرة عوام 

تحافظ مدينة عنابة، بجمالها المتوسطي وتاريخها العريق، على تراثها الثقافي عبر صناعات تقليدية تمثّل روحها الأصيلة، وهويتها المحلية المتجددة. وبين زوايا الأسواق القديمة والمناسبات الشعبية والمواسم السياحية، تنبعث رائحة الأصالة، وتُبعث الحياة في أنامل الحرفيين الذين يحيكون التاريخ بخيوط من ذهب، ومرجان ونحاس.

لا تُعدّ هذه الصناعات مجرد حِرَف يدوية، بل هي لغة يومية يتحدث بها العنّابيون، تعبّر عن ذاكرتهم الجمعية، وتحمل في طياتها القيم، والرموز، والعادات التي صنعت من "بونة" مدينة لا تُشبه غيرها.

الطربوش العنّابي.. تاج الذاكرة ورمز المدينة

يتصدّر الطربوش العنّابي الصناعات التقليدية التي مازالت تحافظ على رمزيتها في عنابة. وبلونه الأحمر القاني - المائل إلى العنابي - يرمز إلى الفخر، والرجولة، والانتماء العميق إلى الأرض. 

يُقال إن لونه مستوحى من لون "أشجار العمال" المنتشرة في ربوع المدينة، تلك الأشجار الصلبة التي ترمز إلى الصمود والثبات.

ويظل الطربوش حاضرا بقوة في حفلات الختان، حيث يلبسه الطفل وسط طقوس احتفالية، وتزيين خاص، يمنحه مهابة، وأناقة. كما نراه في الأعراس، والمهرجانات، والعروض التراثية، وحتى في الصور التذكارية التي يُحب السياح التقاطها؛ كتعبير عن الانغماس في الثقافة المحلية.

لكن المفارقة الجميلة أن الطربوش لا يُرتدى فقط في المناسبات، بل يحضر حتى في الحياة اليومية. ففي بعض المقاهي العريقة بعنابة، مايزال النادل يرتدي الطربوش الأحمر عند تقديم "القهوة العنابية"، وهي قهوة تقليدية تُحضَّر بطريقة خاصة، وتُقدَّم برشاقة في فناجين صغيرة تعبق منها رائحة القرنفل وماء الزهر. هذه اللمسة تضفي على المشهد اليومي طابعا من الأصالة، والفخر بالتراث.

تصنيع الطربوش يتطلب مهارة خاصة، إذ يُغزل من صوف ناعم، ويُطرَّز أحيانا بخيوط ذهبية أو حريرية، في عمل يدوي دقيق يروي قصة من الجذور حتى الرأس.

الفتلة والمجبود.. خيوط من ذهب تنسج الأصالة

تواصل النساء في عنابة تطريز التاريخ بأيديهن عبر فنّي الفتلة والمجبود، وهما من أبرز تقنيات الزخرفة التقليدية التي تزيّن الألبسة النسوية، وخاصة القفطان، والجبادور، والملحفة العنابية.

الفتلة تعتمد على الخيط المعدني (عادة ذهبي أو فضي). وتُطرّز يدويا برسوم نباتية وهندسية مستوحاة من الزخارف الإسلامية. أما المجبود فهو أسلوب أكثر دقة وأناقة، يُستخدم غالبا في تزيين ملابس العرائس، ومفارش البيوت، وقطع الزينة التقليدية.

وتُعدّ هذه الحرف مصدر فخر للمرأة العنّابية، حيث تُعد القطعة المطرّزة تجسيدا لهويتها، وذوقها، وانتمائها. 

وتُورَث هذه المهارات من الجدات إلى الأمهات، ثم إلى الحفيدات؛ في دورة لا تنكسر رغم موجات الحداثة.

السخاب... عبق الذاكرة والعطر النسائي الأبدي

من بين أكثر الأكسسوارات التقليدية تميّزا في عنابة، يبرز السخاب. وهو عقد نسوي يُصنع يدويا من مزيج من الطيب، والمسك، والعنبر، والقرنفل. ويُجفف ويُعالج حتى يصدر عنه عبق فواح. 

وترتديه العروس العنّابية يوم زفافها كرمز للأنوثة، والجمال. ويُقال إنه يحمل دلالة روحانية تحفظ المرأة من العين، وتمنحها الحظ. 

ويُستخدم السخاب أيضا من طرف النساء الكبيرات، كقطعة تُعبّر عن الحنين للماضي، والانتماء للتراث.

واليوم، عاد السخاب إلى الموضة من جديد، ولكن في قالب عصري، حيث تُدمج رائحته العتيقة مع تصاميم حديثة تُناسب أذواق الجيل الجديد دون أن تفقد جوهرها الروحي.

المرجان.. كنز البحر وأيقونة الحليّ الجزائرية

تطلّ عنابة على واحد من أغنى شواطئ البحر الأبيض المتوسط الذي يزخر بـ"المرجان الأحمر"، المادة الخام الأساسية لصناعة الحلي التقليدية الراقية.

ويُعدّ المرجان من أندر الكنوز البحرية. ويتطلب صيده مهارة خاصة، وفق قوانين بيئية صارمة. ويُستخدم في صناعة العقود، والأقراط، والأساور، والقلائد، وغالبا ما يُمزج بالفضة أو النحاس.

ورغم أن صناعة الحلي في عنابة أقل انتشارا مقارنةً بولايات أخرى بسبب ندرة المرجان، إلا أنها ماتزال حية في أيدي حرفيين مهرة، يُبدعون في تحويل هذا الكنز الطبيعي إلى قطع فنية تعبّر عن الجمال المتوسطي.

النحاس المنقوش... حين تتكلم المعادن بلهجة الأندلس

رغم شهرة قسنطينة بصناعة النحاس إلا أن حرفيي عنابة لم يتأخروا في تبنّي هذا الفن الراقي. 

ففي الأسواق القديمة مثل "الحطابة" و"سيدي إبراهيم" تنتشر ورشات صغيرة تنبعث منها رائحة المعدن المحمّى، وأصوات النقش التي تتكرر كأنها إيقاع موسيقي.

ويصنع الحرفيون أواني الطبخ، والأطباق، والمباخر، وحتى المصابيح النحاسية بنقوش عربية وأندلسية، تجسّد التراث الإسلامي في أدق تفاصيله. كما يُستخدم النحاس الأبيض والأصفر. ويُعتمد في زخرفته على أدوات يدوية، تُحافظ على أصالة المهنة.

منتجات النحاس لم تعد فقط أدوات للاستعمال اليومي، بل تحوّلت إلى ديكور داخلي أنيق، يُعرض في البيوت الفاخرة والمعارض التراثية على حد سواء.

الصناعات التقليدية...  من الماضي إلى المستقبل

الصناعات التقليدية في عنابة ليست بقايا زمن، بل كنوز حيّة قابلة للتجديد. فإلى جانب بعدها الثقافي أصبحت هذه الحرف تشكّل موردا اقتصاديا مهما للمدينة. 

وتسعى الجمعيات المحلية والمبادرات الشبابية إلى دعم الحرفيين من خلال تنظيم المعارض والمهرجانات التراثية، وتقديم دورات تكوينية للحرفيين الجدد، واعتماد التسويق الرقمي لعرض المنتجات داخل الجزائر وخارجها.

وقد بدأت، بالفعل، موجة جديدة من الشباب الحرفيين الذين يدمجون بين الأصالة والتجديد بتصاميم مستوحاة من التراث، لكنها قابلة للارتداء، أو الاستخدام العصري.

عنابة... مدينة تنسج الذاكرة بخيوط من ذهب

بين الطربوش والسخاب وبين المرجان والنحاس، تنسج عنابة قصتها الجميلة بلغة التراث. وتُعيد تقديم نفسها كل يوم كمدينة لا تنفصل عن ماضيها، ولا تتوقف عن التجدد.

الصناعات التقليدية ليست مجرد أدوات أو زينة؛ إنها ذاكرة حيّة تُقاوم النسيان، وتربط الأجيال ببعضها. وتشهد على قدرة الإنسان العنّابي على تحويل البحر، والخيط، والمعدن، والعطر، إلى فنّ خالص، يعكس روح المكان، ودفء الإنسان.