ثقـافة هـدر الوقت تتجذر في السلوك اليومي
حينما يغيب الحس بقيمة المواعيد

- 238

يكوّن الكثير من الأفراد علاقة مع الزمن يشوبها تراخ مزمن. واقع لم يعد يثير الاستغراب، بل تحوّل الى سلوك يومي متسامح معه، بل ومبرر في كثير من الأحيان. هذا "التراخي الزمني" رغم بساطته الظاهرة، يحمل تبعات ثقيلة على الأداء الاقتصادي، وعلى مصداقية المؤسسات، وعلى جودة الحياة عموما، في حين يفقد الزمن قيمته، تفقد باقي المنظومة توازنها، تتأخر المشاريع، وتتراكم الملفات، ويترسخ انعدام الثقة بين المواطن والإدارة، أو بين العامل ورب العمل، ليتحول مع الزمن الى سلوك جماعي مقبول ضمنيا، تتوارثه الأجيال، وتعيد إنتاجه المؤسسات. يبدأ الأمر من تفاصيل صغيرة، موعد لا يُحترم، إدارة تفتح أبوابها متأخرة، اجتماع يبدأ بعد ساعة من توقيته، وينتهي بأعذار محفوظة وابتسامات لا مبالاة، وتبرمج المواعيد وكأنها مرنة إلى حد العبث!.
لا تقاس حضارة الشعوب فقط بما تبنيه من عمارات أو ما تحققه من مكاسب اقتصادية، بل كثيرا ما تُختزل في علاقتها بالزمن. ففي دول مثل ألمانيا، واليابان، وسويسرا أو بلجيكا، لا يعد احترام الوقت مجرد انضباط شخصي، بل هو التزام أخلاقي لا تَسامح فيه. أما في عدد من البلدان ذات السياقات الاجتماعية المشابهة، ترسخت علاقة مختلفة تماما مع الوقت، ليست علاقة عداء صريحة، ولكنها علاقة ارتخاء ثقافي، وتطبيع جماعي مع اللاموعد، لا ينبع ذلك دائما من استخفاف أو استهتار، بل من تراكمات اجتماعية، إدارية وحتى تربوية، جعلت من التأخر سلوكا مألوفا، لا يحرج صاحبه، ولا يفاجئ منتظره.
وفي الحياة اليومية، كثيرا ما نصادف عبارات مثل "نجيك بعد شوية"، "راني جاي"، "5 دقائق ونكون معاك"... لكنها لا تعني دائما ما يبدو من ظاهرها. في الحقيقة، أصبح من الشائع أن تنظم المواعيد، ثم تُخرق دون اعتذار، أو يؤجَّل ما يمكن إنجازه اليوم إلى "غد غير معلوم" ؛ فهل، فعلا، لا يحترم الجزائري الوقت، أم أن المسألة أعمق من مجرد تأخير عابر؟
للإجابة عن هذا السؤال كان لـ«المساء" حديث مع الأستاذ عبد الحفيظ بلعيد، مختص في علم الاجتماع بجامعة الجزائر، الذي استهل حديثه قائلا: "لا يمكن القول إن الجزائري يرفض احترام الوقت بشكل واع أو متعمد، بل إن المشكلة متجذرة في التمثلات الثقافية للزمن"، مضيفا: "في المجتمع الجزائري، الوقت غالبا ما يُنظر إليه كشيء مرن، وليس كأداة قياس صارمة، كما هي الحال في الثقافة الغربية، حيث الوقت هو مال، ومنظومة إنتاج دقيقة" . وأضاف: " إن المجتمعات التقليدية ومنها المجتمع الجزائري، تميل إلى الزمن الاجتماعي أكثر من الزمن التقني، ما يعني أن الروابط والعلاقات الإنسانية قد تقدَّم على الالتزام الدقيق بالموعد" .
مشاهد متكررة.. لكنها ليست عشوائية
أكد المتحدث أن تلك التساهلات مع الوقت قد يكون فيها نوع من الانضباط إذا ما توجهت في مواعيد أخرى، فالغريب أن الجزائري نفسه المتعود على التأخير، يُظهر احتراما للوقت في حالات أخرى، كمواعيد السفر والوصول على موعد الطيران، وفي مقابلات العمل الرسمية، أو عند الالتزام مع أجانب أو مؤسسات دولية، كأنه يتقبل نفسه لكن يكون أكثر صرامة مع غيره، ما يعني أن الالتزام بالوقت موجود، لكنه غير مفعَّل دائما في السياق المحلي.
وأضاف المختص الاجتماعي: "إن الكثيرين يتفقون على أن غياب ثقافة احترام الوقت في المجتمع الجزائري، لم يعد مجرد ملاحظة سلوكية، بل أصبح نمطا عاما يطبع المعاملات اليومية، بل ويتحول أحيانا إلى أمر عادي لا يُستهجن اجتماعيا، بل حتى إن البعض يأخذه مسبقا بعين الاعتبار، وكأن لا مفر منه، فحين يتأخر شخص عن موعد رسمي، نادرا ما يواجَه بالرفض أو المساءلة، بل يقابَل بابتسامة أو ملاحظة بسيطة؛ وكأن الفرد تعوَّد على ذلك ".
التقبل يصعّب سياسة غرس السلوك المخالف
نبّه المختص الى أن هذا التقبل الاجتماعي الواسع للتأخر يجعل من الصعب غرس سلوك مخالف، بل أكثر من ذلك، يُنظر أحيانا إلى الشخص الدقيق في مواعيده، نظرة استغراب أو تهكم؛ كأنه غريب عن السياق العام، مشددا على أن احترام الوقت ليس سلوكا شخصيا فحسب، بل عامل حاسم في الإنتاجية، وجودة الخدمات، وكفاءة الأداء الإداري في الجزائر؛ يواجه المستثمرون وأرباب العمل صعوبات يومية؛ بسبب ضعف الالتزام بالمواعيد.
وقال الخبير: " سواء من طرف الإدارات، أو من الموظفين، أو حتى من الزبائن، فالتأخر في فتح المؤسسات، وتأجيل الاجتماعات، والمماطلة في تنفيذ البرامج، كلها تؤثر سلبا على بيئة الأعمال، وتقلل من جاذبية السوق الوطنية، وهذا لا يمكن عزله عن ترتيب الجزائر المتأخر في مؤشرات الحوكمة والفعالية الإدارية عالميا ".
وأكد المختص بلعيد أنه لا يمكن إنكار أن جزءا من هذا السلوك يعود إلى عوامل موضوعية مختلفة؛ ضعف وسائل النقل، والاكتظاظ المروري، والبيروقراطية، ورداءة التخطيط الزمني للمواعيد الإدارية. لكن هذه المبررات لا تفسّر دائما كل شيء، بل تخفي خلفها منظومة فكرية كاملة، لم تجعل من الوقت قيمة مركزية.
وقال من جهة أخرى: " لكن بالرغم من كل ذلك بدأت تظهر بعض المؤشرات الإيجابية على تغير في سلوك الأفراد، خاصة بين فئة الشباب والمتعاملين في القطاع الخاص؛ فثقافة المقاولة وظهور الشركات الناشئة، وانتشار أنظمة الحجز الإلكتروني والتعاملات الرقمية، فرضت نوعا من الانضباط الزمني الجديد، إلى جانب أن بعض المؤسسات أصبحت تعتمد أنظمة تتبع الحضور والانصراف، وتربط المكافآت والإجراءات التأديبية بسلوك احترام الوقت.
وفي الأخير شدد المتحدث على أن لبناء مجتمع يحترم الوقت، لا يكفي سَن القوانين أو فرض العقوبات، بل يتطلب الأمر ثورة ثقافية تبدأ من المدرسة، وتدعم في الإعلام، وتطبَّق في الإدارة والمؤسسات. ولا بد من فهم أن احترام الوقت ليس مجرد التزام تقني، بل هو احترام للذات وللآخرين، وهو عنوان لأي مشروع حضاري حقيقي. ورد الاعتبار للزمن يعني أيضا محاربة الفوضى، والتسيّب، والعشوائية التي تكلف الجزائر كثيرا، ليس فقط من حيث الوقت الضائع، بل من حيث الثقة المفقودة في المنظومة ككل.