عشّاق القهوة وأنصار الشاي
حين يتحوّل المشروب إلى هوية والصراع إلى فن ونقاش
- 221
نور الهدى بوطيبة
ينقسم عامة الناس في غالبية الثقافات، مثلما هي الحال في الجزائر، بين عشّاق القهوة، وعشّاق الشاي. كلٌّ يحمل في يده كوبه، واعتقاده الخاص. فتنشأ، بذلك، معركة هادئة لكنّها مستمرة. هذا الانقسام لا يتعلّق، فقط، بمذاق المشروب، بل يمتدّ إلى عادات، وشخصيات، وثقافات. ورغم فوائد المشروبين ولذّتهما وحتى تأثيرهما المعاكس تقريبا؛ إذ إن أحدهما منشّط، والآخر مهدّئ، يتواصل هذا الجدل بين الكثيرين. ويحاول كل طرف إثبات أنّ مشروبه ـ الشاي أو القهوة ـ أحسن من الثاني حتى وإن كانا مختلفين. ويجد هؤلاء أن وقت الراحة لا يتم إلا بارتشاف أحدهما، لكن دائما ـ حسب هؤلاء ـ لا بدّ من حسن اختيار الفريق. في هذا المقال حاولت "المساء" الإبحار في أسباب هذا الجدل الأزلي، والكشف عن الجوانب العميقة التي تكمن وراء صراع الكوبَين.
في زوايا المقاهي، وعلى أرائك البيوت الدافئة، وفي المكاتب الصاخبة كما في الأمسيات الهادئة، يدور جدل قديم جديد، حميمي وصاخب في آن واحد؛ إنّه الجدل الأبديّ بين عشّاق القهوة وأنصار الشاي. صراع لا يُخاض بالسيوف بل بالأكواب، ولا ينتهي بضربة قاضية، بل برشفة طويلة، تتبعها تنهيدة رضا. في البدء قد تظنه خلافا بسيطا في الذوق، أو حتى خيارا يوميا لا يحمل أبعادا أبعد من منبهات الصباح، لكن ما إن تُصغ آذانك في جلسة بين الفريقين، حتى تدرك أن الأمر يتجاوز المشروب نفسه؛ إنّه نقاش هوية، وفكر، ومزاج، وحتى فلسفة حياة، كما يحلو للبعض تسميته.
مشاهد تقريبا نمطية؛ عشّاق الشاي يتحدّثون بنغمة هادئة؛ كأنّ كلماتهم منقوعة في أوراق النعناع. يصفون جلساتهم بالطقوس الخاصة التي تحمل الكثير من الاحترام. تتبع تحضيراتها خطوات دقيقة بالرغم من بساطة وصفتها، إلاّ أنّه يبدو أنّها معادلة كيماوية دقيقة؛ الماء حتى يغلي. نختار نوع الشاي بعناية، نسكبه برقة، يتطلب الأمر الصبر.. ثم شربُ الشاي بالنسبة لهم، تأمّلٌ، تباطؤٌ، حكمة آسياوية، وطريقة للاندماج في لحظة الحياة.
أما عشّاق القهوة فهم أكثر حيوية، أقرب إلى الفوضى الجميلة. تراهم يتحدّثون بشغف، ونبرة فيها نفَس ثوري. فالقهوة في فلسفتهم توقظ الروح، وتفتح العيون قبل أن تفتح العقل. وفي نظرهم القهوة الأولى كأوّل لقاء حب؛ مركَّزة، صادقة، لا تُنسى. فالقهوة عندهم ليست فقط مشروبا، بل إعلان حضور، وصفعة ودية لبدء اليوم بكل نشاط وحيوية. رائحتها الأولى كافية لإيقاظ عائلة كاملة وحتى الجيران.
الذوق انعكاس للشخصية
عن هذا الموضوع حدثنا ندير صامري ـ باحث في الثقافة الاجتماعية وكاتب ـ قائلا: "الجدل بين هذا وذاك عميق" . وأضاف: "إنّه أكثر من ذوق؛ إنّه انعكاس للشخصية. فالشاي يميل إليه من يقدّس الروتين، والتأمّل، وربما يبحث عن السكون. أما القهوة فهي حليفة من يسعى إلى الحركة، والإنتاج، والتحدي. فالصراع ليس بين الشاي والقهوة، بل بين نمطي حياة مختلفين تماما ".
وأكد صامري أنّ هذا الجدل الواسع يتّسم بنوع من الطرافة؛ كاختيار، مثلا، فريق كرة القدم المفضّل؛ فالطرافة تنبع من الجدية الزائدة التي يمنحها كلّ طرف لمشروبه؛ كأنّها مسألة حياة أو موت، على حدّ تعبيره. وتجد أحدهم يقول: "لا أثق بمن لا يشرب القهوة!". وآخر يردّ: "من لا يفهم متعة الشاي لا يعرف السلام الداخلي" ؛ وكأنّنا أمام مناظرة فلسفية، ليُدخلك البعض في عمق الكلام، وبعد ثقافة اجتماعية يصعب وصفها".
ويتجذر هذا الصراع، حسب الكاتب، في أعماق التاريخ. فالشاي ابن الحضارات الشرقية، رمز التوازن والضيافة. ارتشفته الصين، وقدّمته اليابان طقسا روحانيا. وأحبّته بريطانيا بتهذيب، فلم تجد حرجا في إعطائه لمسة خاصة بإضفاء الحليب. أما القهوة فقد خرجت من أرض اليمن. ورفرفت في شوارع إسطنبول. ثم غزت أوروبا بصحوة فكرية. واكتسحت أمريكا بثقافة السرعة والإنتاج. ولا تغيب أبدا هذه الثقافة في الحضارة الترقية في صحراء الجزائر، التي يتفنن رجالها الملثمون، في تحضيرها ضمن طقوس تروي حكايات وحكايات حولها. وشدد المتحدث على أنّ المشروبين من القهوة والشاي، تحوّلا إلى رمزين لنمط العيش، وطريقة التفكير، وحتى طريقة الحب. فالشاي يرمز للتأني. أما القهوة فتهمس عيش اللحظة، والاستمتاع بحياة نشطة.
وبين القهوة والشاي لا يقف الجميع على طرفي نقيض، بل هناك فئة من الناس تجمع بينهما في روتينها اليومي، فتجدهم يبدأون الصباح بفنجان قهوة يوقظ الحواس، وينعش الذهن. ثم يختتمون النهار بكوب شاي دافئ، يهدئ الأعصاب، ويغسل تعب اليوم. هؤلاء الأشخاص لا يرون في المشروبين تناقضا، بل منطقا متكاملا يكمل بعضه بعضا؛ حيث تعكس القهوة الحماسة والطاقة، بينما يمنحهم الشاي الصفاء والتأمل. وهكذا يتنقلون بين عوالم مختلفة من المشاعر والاحتياجات، متوازنين بين نشاط الحياة وصخبها، وسكون اللحظة وهدوئها. وهذا التنقل بين الكوبين يعكس قدرة فريدة على التكيف والمرونة في نمط الحياة. تجعل من هؤلاء الجسور الحية التي تربط بين عشاق القهوة وعشاق الشاي، كما تجعل الصراع أقل حدة، وأكثر تفهما، هم أكثر هؤلاء الذين يحاولون تهدئة تلك النقاشات.