الالتزام بالمواعيد

تنشئة الأجيال تحتاج إلى الاعتماد على الزمن الصناعي

تنشئة الأجيال تحتاج إلى الاعتماد على الزمن الصناعي
  • القراءات: 690
❊ رشيدة بلال ❊ رشيدة بلال

أَولى الأخصائيون في علم الاجتماع أهمية كبيرة لدراسة ظاهرة عدم احترام الوقت في المجتمعات العربية، حيث قدموا تفسيرات مختلفة، اتفقت في مضمونها على نقطة واحدة، وهي أن هذه المجتمعات لا تثمن الوقت ولا تحترمه، بل ولا تعتبره التزاما معنويا؛ الأمر الذي حال دون الالتزام به. وعن مدى تنامي الظاهرة في المجتمع الجزائري وأسباب عدم تثمين الوقت استطلعت المساء آراء المواطنين والأخصائيين.

هل سبق لك أن قدّمت موعدا لشخص ما وتأخرت عنه؟ وهل سبق وقدم لك البعض موعدا وظللت تنتظر حضورهم لمدة من الزمن؟ وهل كانت المبررات المقدمة مقنعة أو واهية؟ الإجابة على هذه الأسئلة التي طرحناها على عدد من المواطنين من مستويات اجتماعية وثقافية وتعليمية مختلفة ومن الجنسين، كانت كلها تصب في وعاء واحد، مفاده أن تقديم الموعد شيء، واحترامه شيء آخر؛ فإن كان الموعد عند الساعة العاشرة فإن الحضور يكون بعد ساعة أو أكثر، المهم أن الالتزام بالوقت قلّ ما يكون، وأن التأخير تحصيل حاصل؛ إذ أصبح أمرا مقبولا ولا يثير غضب الأغلبية بعد التعود عليه، وعلى حد قول إحدى المواطنات: مادام الطبيب يعطي موعدا لمرضاه ولا يلتزم أصلا بالحضور ولا يعتذر حتى عن التأخير شأنه شأن أي موظف آخر، فما بالك بغير المثقف!”، فيما أكدت أخرى أن عدم احترام المواعيد أصبح شيئا مألوفا، وأن غير المألوف أن يحضر من ننتظره في الموعد. أما عن الأسباب فقد تمحورت، حسبما أكد أغلب المستجوبين، في الزحمة المرورية، وكثرة الانشغالات التي قد تظهر بدون سابق إنذار، فيجري التضحية مباشرة بالموعد؛ إما بعدم الحضور أصلا أو بالتأخر عنه ساعة أو أكثر.

الزمن الزراعي تغلّب على الزمن الصناعي

أرجع الدكتور حبيب لود، أستاذ محاضر بجامعة بومرداس مختص في علم الاجتماع في معرض حديثه مع المساء، سبب التضحية بالوقت في المجتمع الجزائري وعدم الالتزام بالمواعيد وإهمالها، إلى العقلية الجزائرية التي يصفها بغير الصناعية أو بالعقلية الزراعية، التي تؤمن بالزمن الزراعي التلقائي الذي يرتبط بالممارسات اليومية للفلاح، والتي يُرجعها إلى بعض الظواهر الطبيعية؛ كالشمس والغيوم والأمطار وكذا الليل والنهار، حيث يقوم بممارساته الاجتماعية وفقا لها. ويشرح الأخصائي: فمثلا عند الخروج من المنزل ينتظر طلوع الشمس. وعندما يهطل المطر أو يصبح الجو مظلما يعود أدراجه إلى المنزل، وغير ذلك من المواعيد التي ارتبطت بالظواهر الطبيعية، والتي يقول: تربينا عليها جيلا بعد جيل.

ومن جهة أخرى أوضح محدثنا: إن التنشئة الاجتماعية التي جعلتنا نؤمن بالوقت الزراعي، كانت سببا في عدم اعترافنا بالزمن الصناعي الذي لا يؤمن بالعوامل المناخية، وإنما يرتبط بالسلوك الرأسمالي الصناعي، الذي يُبنى على فكرة أن الزمن عامل مهم، وهو استثمار لا بد من تقديسه، وأن ضبط الأشغال اليومية وفق زمن محدد، ضرورة، خاصة ما تعلق منها بالعمل، حيث يُعتبر ضبط المواعيد في المسائل المتعلقة بالعمل في المرتبة الأولى، تليه الارتباطات الاجتماعية، موضحا، على غرار المجتمعات العربية التي تولي أهمية للروابط الاجتماعية التي يحكمها الزمن الزراعي، ويأتي في المرتبة الثانية العمل؛ بمعنى في المجتمعات الغربية  مثلا، نجد أن المواعيد الاجتماعية يتم ضبطها قبل موعد العمل؛ لأنه التزام لا بد من احترامه؛ فمثلا يلتقي زميلا له عند الساعة السابعة؛ لأنه يعلم أن موعد العمل هو الثامنة، أو يضبط موعدا اجتماعيا من الثانية عشرة إلى غاية الواحدة؛ لأنه يعلم أنه وقت راحة بالنسبة له، على خلاف المجتمعات العربية، التي تضبط موعدا اجتماعيا وقت العمل؛ لأنها لا تؤمن بالزمن الصناعي. وردّا على سؤالنا حول الأسباب التي جعلت المجتمعات العربية عموما والمجتمع الجزائري خصوصا غير قادرة على اعتماد الزمن الرأسمالي الصناعي، يجيب المختص الاجتماعي قائلا: الصناعة، ببساطة، لم تكن وليدة الأفكار الاجتماعية للمجتمعات العربية عموما. ولأننا مجتمعات لم نكن مهيّئين للفكر الصناعي؛ ما يعني أن الفكر الصناعي مستورَد، وبالتالي استيرادنا الزمن الصناعي جعلنا نؤمن به كفكر لكنا لا نلتزم به؛ لأننا لم نتربَّ عليه. وحسبه: هذا لا يُعتبر عيبا، وإنما فكرا بحاجة إلى التعود عليه.

وعن الأسباب التي جعلت بعض الجزائريين والعرب عموما يلتزمون بالزمن الصناعي عند العمل في المجتمعات الغربية، أكد محدثنا أن السبب راجع إلى فكرة الاندماج والخضوع لما يسمى بآلية الضبط الاجتماعي؛ فالفرد إذا كان معزولا؛ أي في مجتمع غير مجتمعه، يحاول أن يندمج من خلال الالتزام بضوابط هذا الأخير، على خلاف الفرد الذي ينتمي إلى مجتمع يؤمن بالزمن الزراعي؛ فإن حاول الخروج عنه والالتزام بالزمن الصناعي، يكون سلوكه شاذا وغير مقبول، وبالتالي حتى يكون متقبلا في المجتمع لا بد أن يكون منسجما، وهذا ما يفسر سبب التزام البعض بالمجتمعات الغربية، التي يكون فيها ملزما على تبنّي ضبط اجتماعي جديد.