سيرك عمار
بهجة متجوّلة تنصب خيمتها في قلب عنابة

- 181

نصبت خيمة سيرك "عمار" العريقة أركانها في ملعب "19 ماي 1956" بمدينة عنابة، منذ الخامس عشر جويلية الجاري، محوّلة الساحة إلى مسرح حيّ للفرجة والدهشة، تستقطب العائلات يوميًا من مختلف أحياء المدينة وما جاورها، في مشهد صيفي يعيد الحياة لطقوس الترفيه الجماعي التي باتت نادرة.
بمجرد أن تطأ قدماك محيط السيرك، تشعر أنّك دخلت حكاية ملوّنة. هناك، تعانق القبة الحمراء زرقة السماء، وتتراقص الأضواء وتتعالى أصوات المنادين، فيما تتقاطر العائلات نحو المكان كأنّ المدينة بأكملها تتحرّك صوب الفرحة.
منذ انطلاقته، غيّر سيرك عمار وجه المدينة كلّ مساء. لا يعود الوقت مساءً ملكًا للهدوء، بل يُصبح موعدًا مع العرض، مع الحلم، مع تلك الضحكة التي تأتي من القلب دون مقدّمات. في طوابير طويلة أمام الخيمة الكبيرة، تقف الأمهات والآباء يحملون الأطفال على الأكتاف، أو يُحكمون قبضتهم على أياديهم الصغيرة، وترافقهم ضحكات مبكّرة تسبق العرض نفسه. تفتح الخيمة أبوابها في مشهد يوازي أعراس المهرجانات. الداخل مزدان بالألوان والأنوار والكراسي المرتّبة على شكل نصف دائرة. في الوسط، الحلبة تنتظر، والساحة كأنّها مسرح أسطوري أُعدّ بعناية لطقوس الدهشة.
تبدأ العروض بخفة يد وسحر بصري، مهرّجون في هيئة فوضوية مقصودة، يدخلون ويركضون ويتصادمون ويرسمون البسمة على وجوه الأطفال والكبار معًا. ثم تتوالى الفقرات بانسيابية محترفة، بهلوانات يتقافزون في الهواء بلا خوف، فتيات يرقصن على الحبال المعلقة، أسود تطيع مروّضيها في عروض دقيقة التوقيت، وخيول تُبدع في تشكيل لوحات حركية كأنّها راقصة باليه مدرّبة.
لكنّ أبرز ما يميّز هذا السيرك ليس فقط جودة فقراته أو تنوّعها، بل الجوّ الحميمي الذي يصنعه مع الجمهور. في لحظات معيّنة، تجد أحد العارضين يقترب من المقاعد ويدعو أحد الأطفال للمشاركة، أو يسير مهرّج في الصفوف الخلفية ليرشّ الماء على الحاضرين فيضحكون ويصرخون ويتمنّون المزيد.
لا تكاد تمرّ دقيقة دون تصفيق، أو شهقة، أو صوت ضحكة طفل تعالت لتلامس القبة. وبين عرض وآخر، تتداخل صيحات الانبهار مع أصوات الكاميرات والهواتف، حيث يحاول الجميع الإمساك بلحظة لن تعود، الأسد الذي قفز في النار، الفتاة التي انقلبت في الهواء كفراشة، أو المهرّج الذي سقط "عمدًا" فأسعد الصغار قبل الكبار.
وتحت الخيمة، لا توجد فوارق اجتماعية ولا طبقية. الجميع يجلسون جنبًا إلى جنب، مهندسون، عمّال، نساء في الألبسة التقليدية، مراهقون، شيوخ يتكئون على عكّاز، وأطفال بالكاد تعلّموا النطق... لكن الجميع يشاركون نفس الضحكة، ونفس الانبهار، والرغبة عينها في أن يطول العرض أكثر.
تقول السيدة عليمة امرأة في التقدّم السادس جاءت برفقة أحفادها "الزمن تغيّر، والهواتف سرقت الضحكة، لكن السيرك أعادها إلينا اليوم... شعرتُ أنّني عدتُ صغيرة." أما أحد الأطفال، فكان يصرخ لأمه بعد نهاية العرض "أريد أن آتي غدًا أيضًا!".
ومع اقتراب الثاني من أوت، الموعد الأخير لهذه الرحلة السحرية، لا تزال خيمة السيرك مفتوحة على مصراعيها، ترحّب بمن يريد أن يعيد ترتيب قلبه، أن ينفض عنه الغبار، أن يرى بعينيه أنّ البهجة الحقيقية لا تُشاهد عبر الشاشات، بل تُعاش في حضرة البهاء الحيّ.
سيرك "عمار"، بما يملكه من تقاليد أصيلة في عالم السيرك المتجوّل، لم يأتِ إلى عنابة كزائر عابر، بل كصديق قديم يعرف كيف يُخرج أجمل ما فينا، طفولتنا.