ضريبة فرضتها التغيرات الاجتماعية ونمط الحياة المعاصرة

بعض الأولياء تخلو عن مسؤولياتهم

بعض الأولياء تخلو عن مسؤولياتهم
الأخصائي في علم الاجتماع، الأستاذ يوسف حنطبلي،
  • القراءات: 740

فرضت ظروف الحياة المعاصرة وخروج المرأة للعمل، لدعم الزوج أو إثبات الوجود، مسؤوليات جديدة كشفت عن مدى عجز الطرفين عن القيام بها، لعدة أسباب أهمها، الارتباطات المهنية من أجل تأمين مستوى معيشي مقبول، ولأنها من المسؤوليات التي لا تقبل التأجيل، تم تكليف الأبناء ببعضها في سن مبكرة، في النتيجة، أصبح الأبناء يشعرون بأنهم يؤدون مهام ليست من اختصاصاتهم، لكنهم في المقابل، مطالبون بأدائها ولعل أكثرها شيوعا الإشراف على الإخوة، وهي عادة، المهمة التي تلقى على عاتق الإبن الأكبر.

احتكت "المساء" بعدد من النساء العاملات في مجالات مختلفة، وبخصوص ما إن كنّ يلقين بجزء من المسؤوليات على عاتق الأبناء، أكدن  عجزهن عن إنجاز كل المهام، الأمر الذي يجعلهن "ملزمات لا مخيرات" على التخلي عن بعضها، وتكليف غيرهن بها، لا سيما أن بعضها لا يمكن تأجيله كمرافقة الأبناء إلى المنزل بعد انتهاء وقت الدوام، وهو ما جاء على لسان موظفة في مؤسسة عمومية، وأم لثلاثة أطفال، حيث أشارت في معرض حديثها إلى أنّ ارتباطاتها المهنية جعلتها عاجزة عن مرافقة أبنائها من وإلى المدرسة، مما حتّم عليها الاستنجاد بابنها الذي ـ حسبها ـ "لا يزال صغيرا" - رغم أنّه يدرس في الطور المتوسط، غير أن ظروفها جعلتها تحمّله مسؤولية تفوق سنه، حيث يشرف على مرافقة أخويه إلى المدرسة ويتكفّل بحمايتهما وتأمين الوجبة المناسبة لهما في المنزل إلى غاية عودتها، وتعلق "يشعر ابني بالكثير من الانزعاج عند تكليفه بالإشراف على أخويه، إلا أن وعيه بظروفي المهنية يجعله يستسلم للأمر ويقدّم الكثير من التنازلات".

اعتداء على حقوق الأطفال

من جهتها، كشفت مواطنة أخرى في معرض حديثها، عن حاجتها إلى دعم أبنائها حتى لا تفقد وظيفتها التي تعيل بها أفراد أسرتها. وأشارت في السياق إلى أنّ ابنتها التي تبلغ من العمر 12 سنة، تشرف على تأمين كل حاجات إخوتها الثلاثة إلى غاية عودتها إلى المنزل، حيث ترافقهم من وإلى المدرسة وتؤمن لهم وجبة الفطور وتحرسهم إلى غاية عودتها من العمل. مشيرة إلى أن تكليف الأبناء ببعض المسؤوليات ـ في اعتقادها ـ يشكل اعتداء على حق من حقوقهم المتمثل في اللعب أو ممارسة هواية ما، غير أن الواقع الصعب وتكاليف المعيشة الباهظة جعلتهم يحمّلون أبناءهم مسؤوليات، هي في حقيقة الأمر من صميم واجباتهم.

بينما أعربت السيدة "علياء.ن" التي تعمل في السلك الإداري، حاجة العاملات اليوم إلى من يدعمهن ويحمل عنهن جزءا من الأعباء التي عجزوا عن القيام بها بسبب كثرة المهام. في السياق، لم تخف أسفها عن حال ابنها المتمدرس في الطور المتوسط، الذي يشرف يوميا على مرافقة أخته الصغرى إلى روضة الأطفال قبل التحاقه بمدرسته، وتعلّق "ظروف الحياة المعاصرة جعلتنا نلقي ببعض المسؤوليات على أبنائنا، لكن أعتقد أنها تساعد على بناء شخصيتهم، رغم أنها من جهة أخرى،تحرمهم من بعض الامتيازات، كمرافقة زملائهم صباحا مثلا".أغلب المستجوبات من النساء العاملات اعترفن بعجزهن عن التوفيق بين  التزاماتهن المهنية ومهامهن اتجاه أبنائهن، وهو ما يحتم عليهن التخلي عن بعض المهام، ويقودنا إلى طرح السؤال التالي "إلى أي مدى يمكن أن يؤثّر هذا التصرّف على أطفالهن، خاصة أنه يتزامن مع مراحل بناء شخصيتهم؟ وهل يمكننا وصف الظاهرة بأنها إيجابية، لأنها تعلمهم معنى المسؤولية، أم أنها سلبية كونها تجعلهم غير قادرين على التمتع بطفولتهم كما يجب"؟ 

الانتقال من النسق الجماعي إلى الفردي أثر على الأبناء

في هذا الإطار، يرى الأخصائي في علم الاجتماع، الأستاذ يوسف حنطبلي،  أنّ تكليف الأبناء ببعض المسؤوليات ليس مسألة جديدة، لأنّ المجتمعات التقليدية كانت تشعر الأبناء بأنهم أصبحوا رجالا، بالنظر إلى حجم المسؤوليات التي تلقى على عاتقهم، وهو ما عاشه قديما الأجداد وحتى بعض الآباء، غير أن الاختلاف الوحيد حسب المختص الاجتماعي، بين ما يحدث اليوم وما كان واقعا فيما مضى، أن المسؤولية التي كان يتحمّلها الأبناء كانت تتم في نسق جماعي، الأمر الذي لم يؤثّر على بناء شخصية أبنائهم، بل على العكس، كان أثره إيجابيا، لأنه ـ حسب الأخصائي ـ ساهم في تأهيلهم ليكونوا قادرين على تحمل المسؤوليات". ويعلق "الأمر لا يتوقّف على الذكور فقط، بل حتى على الإناث، لأن العائلات الجزائرية في تربيتها قديما، كانت تراهن على التحضير لمشروع رجل وامرأة بإمكانهما تحمل الأعباء".

أوضح المتحدث "أما اليوم فالطفل المعاصر يشعر بأنه يتحمّل بعض المسؤوليات بصورة فردية، بالنظر إلى التوجه العام القائم على رغبة الزوجين في العيش بعيدا عن العائلة الكبيرة، الأمر الذي غيّب الدعم الاجتماعي وجعلهم يشعرون بثقل المسؤولية".من جهة أخرى، يرى الأخصائي الاجتماعي أنّ الجيل الذي عاش سنوات التسعينات محظوظ، لأنه وجد الدعم في العائلة الكبيرة، غير أن الجيل المعاصر يسارع اليوم إلى التخلي عن بعض المسؤوليات بحجة كثرة الالتزامات، مما يولد شعورا بالإجحاف في حق الأبناء، ويضيف "الأمر الذي يقودنا إلى القول بأن بحث الوالدين عن التموقع بالنظر إلى التحولات التي يعرفها المجتمع، جعلهم يهربون من بعض مسؤولياتهم".

يخلص الأخصائي إلى التأكيد على أن المجتمعات المعاصرة اليوم، ترى بأن مسألة تربية الأبناء قضية مؤسساتية وليست عائلية، يشرح "بمعنى أنّ المؤسسات هي التي تتكفّل بتلبية كل احتياجات الأبناء، ولا يكون هناك انسحاب للمهام"، غير أن الإشكال الذي يطرح، حسب محدثنا، يتمثل في جعل عملية التربية المؤسساتية تقضى على الروابط العائلية والعلاقات العاطفية، وهو  ما يقودنا إلى القول بأن "التنشئة الاجتماعية للأطفال تخضع اليوم لفلسفة المجتمع المعاصر وما يحمله من تغيرات، وفكرة خلق مؤسسات قادرة على سد الثغرات، والحفاظ على الروابط الاجتماعية بالنسبة للعائلات غير القادرة على القيام بدورها لا زال محل بحث".