المجتمع القبائلي يستحضر العادات

"اماقار نتفسوث"...تقليد يرفض الاندثار

"اماقار نتفسوث"...تقليد يرفض الاندثار
  • القراءات: 2802

تستعد قرى منطقة القبائل لاستقبال الربيع "اماقار نتفسوث"، حيث ومع نهاية فصل الشتاء واقتراب موعد دخول الربيع، حسب الرزنامة الأمازيغية، تتهيأ القرى للاحتفال بالانتقال من موسم البرد والظلام إلى موسم الإزهار وجمال الطبيعة وبداية سلم الحرارة في الارتفاع، لتجود الأرض بخيراتها، حيث يكون الاحتفال مميزا من جهة استحضار العادات، ومن جهة أخرى، الانتقال إلى موسم فلاحي آخر ظل لسنوات تقليدا راسخا لا يندثر.

تختلف الاحتفالات باستقبال الربيع من قرية إلى أخرى، إذ لكل واحدة منها طريقتها في استحضار هذه العادة القديمة الراسخة في الأذهان، واحدى المكونات الثقافية والشخصية للقرويين منذ أزل بعيد، فحتى وإن اختلفت طريقة الاحتفال بدخول الربيع، إلا أن الهدف واحد، يتمثل في إحياء طقوس الانتقال من موسم لآخر وفقا للرزنامة الأمازيغية المتعلقة بخدمة الأرض. فالكل على قدم وساق من أجل استقبال هذا الفصل الذي تسوده أجواء بهيجة، وباتت تقليدا  يرفض الاندثار، حيث أن تمسك السكان بكل ما تعلموه وورثوه عن الأجداد أصبح جزءا من حياتهم اليومية يتم استحضاره في كل مناسبة تصادفها.

"اماقار نتفسوث" بمنطقة القبائل له وقع خاص عند السكان، وهو ما تجسده المظاهر البهيجة التي تطبع القرى في هذه الآونة، منهم من شرع في الاحتفال عبر تجمع السكان الكبير والصغير والفتيات والنساء بالزي التقليدي، للانطلاق في إحياء هذا التقليد، كما تنظم بعض بلديات تيزي وزو  نشاطات ثقافية، فنية وترفيهية لفائدة السكان، مع إشراك الأطفال ضمن مسابقات الرسم، التعبير، تقديم مسرحيات وغيرها، للحديث عن  الربيع والبيئة والمحيط وأهمية الحفاظ عليها، وضمان بقائها نظيفة، إلى جانب تنظم معارض للمنتجات الفلاحية، وأنشطة بحتة متعلقة بـ "اماقار نتفسوث"، من خلال إحياء بعض الطقوس والعادات.

تعتبر هذه العادة "اماقار نتفسوث" نقطة تحول وعبور من مرحلة لأخرى في حياة القرويين، لاسيما و أن حياتهم مرتبطة بشكل وثيق بالفلاحة والزراعة، حيث أصبح  هذا التقليد مع مرور السنين يقترن بفصل الربيع، لتعيش منطقة القبائل هذه المرحلة في أجواء من النشاط والحماس بطرق مختلفة، حيث أن بعض المناطق بدأت بالاحتفال الذي يتواصل إلى غاية نهاية أفريل في مناطق أخرى.

"ازنزي"...  تختزل مسار الاحتفال بقدوم الربيع

تسعى العائلات إلى إحياء عاداتها وتقاليدها المتنوعة، كل حسب المناسبة التي تلائمها وتصادفها، حيث تعمل العائلات من أجل الإبقاء على مايميز حياتها التقليدية، رغم ماطرأ من تغيرات على حياتها، لكن العادات يجب أن تظل من أهم النقاط التي يتعلمها الفرد في عائلته،على اعتبارها تمثل جزءا من حياتها وشخصيتها وإرثا يجب نقله للأجيال عبر إحيائها واستحضارها، حيث نجد قرى آث عيسيب بلدية إعكوران الواقعة بدائرة اعزازقة، تحيي عادة خاصة بها كلما حل شهرأفريل،تسمى بـ"ازنزي" أو" ثيريري أوزال"  لاستقبال الربيع.

قرية آث عيسي التي تقع على بعد حوالي 50 كلم شرق ولاية تيزي وزو، لا زالت تحيي العادات والتقاليد المتنوعة، كما كانت عليه منذ قرون خلت، فقاصد هذه القرية الجبلية سيتفاجأ حتما من طريقة إحياء المناسبات والأفراح المقامة ومختلف العادات التي تعود بنا إلى زمن بعيد، فهي تجسيد لصورة قديمة في حياة جديدة مختلفة تماما، لكن لا يبدو ذلك أمرا غريبا حتى بالنسبة للذين يكتشفونها لأول مرة، بل بالعكس، هي مناسبة وفرصة يطلع خلالها الفرد على جانب جميل من محطة تقليدية محضة، لكن يجهل وجوده، حيث كانت الأسرة تعتمد على الفلاحة للعيش، وعلى الحيوان للحرث ونقل الأكل، الأغصان، الماء وحتى بناء المنازل، عندما  كان الحمار الرفيق الدائم لسكان منطقة القبائل، فقد ساعدهم في محنتهم وحياتهم اليومية، على حمل المؤونة، مواد البناء وغيرها.

الاحتفال بدخول الربيع عند آث عيسي يكون حول كل ما له علاقة بالربيع من أزهار، أرض، فلاحة، حيوان وغيرها، لذلك يقام عرس خاص بالحيوان يسمى "ازنزي"، حيث تقول "نا زهوة" أن آث عيسي يستعدون لاستقبال الربيع على اعتبارهم يمارسون نشاط الفلاحة وتربية البقر والمواشي، وقالت أن السكان يحبون الاستمرار في نمط عيش القدماء رغم التطور الذي طرأ على حياتهم، مشيرة إلى أن الاحتفال يكون خلال الفترة الممتدة بين 16 و18 أفريل المصادف لفترة ما يسمى بـ«احقان" حسب الرزنامة الأمازيغية، حيث يتم في هذه الفترة إخراج المواشي والغنم وصغارها في الصباح الباكر قبل طلوع الشمس إلى الحقول،  فيذهب الرجال إلى الحقول ويأخذون معهم أكلا يشمل التين اليابس و«أغروم أقوران" ـ كسرة ـ واللبن.

واصلت المتحدثة، بأن ربات البيت يغتنمن هذه الفرصة لتحضير أطباق تقليدية ترتكز على زيت الزيتون، حليب البقر، القمح والشعير، الزبدة، العسل، التين الجاف وغيرها لتنويع المائدة، حيث يتم تحضير "إيوزان، اشباظ، بركوكس، تيغرفين" وغيرها. كما تقتضي العادة بقرية آث عيسي إيقاد الكانون، ويتم الاستعانة بما يسمى بـ«تقرسا"، ووضع القليل من "ايريج" وهو بقايا رماد النار و«تقرسا" أمام مدخل الإسطبل، إلى أن ينطفئ لوحده ويترك هناك إلى غاية عودة الحيوان إلى المنزل. بينما تواصل ربة البيت  تحضير ما لذ وطاب، تقوم البنات الصغيرات بإحضار مختلف أنواع الأزهار التي تنمو وتزهر في الربيع، حيث يتوجهن جماعات إلى الحقول ويرددن أغان تمجد الربيع، ويتم تشكيل باقات يزين بها أبواب منازل القرية، وهو ما يزيد العرس ابتهاجا وسعادة.

تتميز الاحتفالات بدخول الربيع بإحياء عادة جميلة، إذ يتم تزيين الفتاة بأجمل لباس تقليدي قبائلي، وتلبس النساء الطفلة "اكرزي" التي تضم الجبة القبائلية و"الحايك" ولف رأسها بـ"تيمحرمت لحرير" ليربط بـ"أقوس"، وتوضع على الرأس باقة أزهار جميلة. كما تتزين بالفضة. فيما يرتدي الشاب لباسا  تقليديا جميلا مع البرنوس، ويتم اقتياد الفتاة والشاب إلى الغابة على وقع زغاريد النساء، ليتم الكشف عن وجه الفتاة، وتقوم الفتيات العازبات بجمع الأزهار، وهن يرددن أغنية "تفسوت تفسوت أنجوجوغ ام تفسوت آنتنارني أم تاغوث"، بمعنى" الربيع الربيع نزهر مثل الربيع ونكبر مثل السحاب"، ليعدن أدراجهن إلى المنزل في جو من الفرح والسعادة.

يقوم الأشخاص المسنون عند دخول الربيع، بمسح أوجه الأطفال بندى الصباح مع الدعاء لهم بالسعادة والصحة والنجاح، وغيرها من العادات الجميلة التي تصاحب هذا الحدث والتي لا زالت العائلات تحييها.

محطة للاستمتاع بجمال الطبيعة.. ودعوة إلى الحفاظ على البيئة   

ينتظر الكبار والصغار دخول الربيع من أجل الاستمتاع بجو الربيع الذي يتميز بالأزهار الجميلة المتنوعة بألوانها وروائحها، حيث تسمح هذه الاحتفالات باستنشاق الهواء المنعش والاستمتاع بجمال مناظر بساتين الزيتون التي تصنع لوحة طبيعية خلابة، يزيدها جمالا الأطفال الصغار الذين يتجولون في الحقول لقطف الأزهار التي تعبق المكان بروائحها على بعد مئات الأمتار، والفتيات يصنعن تاجا من الأزهار لوضعها فوق رؤسهن، إلى جانب الفراشات الجميلة وتغاريد الطيور وغيرها من الصور التي تصنع لوحة تجتمع فيها نغمات الطبيعة، للتعبير عن دخول الربيع، الذي يتيح فرصة الغوص في عالم الطبيعة واكتشاف خيراتها وثرواتها.

تغتنم المرأة القبائلية هذه المناسبة لتجديد وتنظف منزلها، بالاستعانة بالطين، احتفالا بقدوم الربيع والتفاؤل بالسلام والاستقرار والسعادة، حيث تجلب نوعا من النباتات الفواحة، مثل الليمون، لتنظيف البيت ووضع مادة الطين ذات اللون الرمادي الفاتح أو الرصاصي على الجدران والأسقف للتخلص من السواد الذي يتركه الدخان الناتج عن التدفئة بالأغصان.

عادات مختلفة واحتفالات مميزة تصبو إلى إحياء الطقوس واستحضار الموروث، لكنها أيضا فرصة للدعوة إلى حماية البيئة والمحيط والاعتناء بالغطاء النباتي والأشجار، حيث أن هذه الاحتفالات ترمي إلى زرع ونشر ثقافة الحفاظ على البيئة، كما أن استمتاع الأطفال والكبار بجمال الربيع يحفز على العمل على إبقاء هذا الجمال بالاعتناء به، كأحد القيم النبيلة التي يجب التركيز عليها وأخذها بعين الاعتبار، لأن الطبيعة جزء لا يتجزأ من حياة السكان، وتجسيد لمبدأ "صحة البيئة من صحة الإنسان". 

تصاحب هذه النشاطات محاضرات تنظمها جمعيات خاصة ناشطة في مجال الحفاظ على البيئة التي تطرح مسألة النظافة، الفرز الانتقائي للنفايات، فوائد الأعشاب لمواجهة الأمراض وغيرها من المواضيع التي يعد الغرض منها إبراز أهمية ودور الطبيعة في حياة الفرد، حيث أن العائلات تغتنم فصل الربيع لجمع مختلف الأعشاب وادخارها لفصل الشتاء، منها التي تستعمل لإعداد الأطباق التي تمدهم بالصحة وتمنح الجسم الصحة وتمده بالطاقة والحرارة لمواجهة البرد، وأخرى للتداوي من مختلف الأمراض. كما أن الدعوة إلى تفادي رمي القمامة في الطبيعة يسمح بحمايتها من التدهور، ولعل توجه القرى اليوم نحو سياسة الفرز وكذا مشاركتها في مسابقة "أنظف قرية" التي ينظمها المجلس الشعبي الولائي خير دليل على عودة القرى إلى العادات القديمة، التي من شانها إبقاء القرى نظيفة والمحيط كذلك، لضمان نظافة الموارد المائية وجودة المحاصيل، والهواء المنعش الذي يبحث عنه سكان المدينة، ليجدوه في الريف، حيث تفتح الطبيعة بجمالها ونقاء هوائها، ذراعيها لاستقبال من يقصدها، لتتحول الأيام إلى ربيع دائم، مزهر وجميل بألوان الأزهار والنباتات بأشكالها المختلفة التي تفوح بعطور زكية.

س.زميحي