رغم المنافسة الشرسة للآلات الكهربائية

"المهراس" أيقونة المطبخ الجزائري بلا منازع

"المهراس" أيقونة المطبخ الجزائري بلا منازع
  • القراءات: 8179
أحلام محي الدين أحلام محي الدين
كان ولا يزال "المهراس" سيد المطبخ الجزائري، حيث تحرص ربات المنازل على نظافته ولمعانه الدائم من خلال غسله بالرماد والليمون، فهي وصفة الجدات المتداولة، ويعتبر إرثا حضاريا له صلة وثيقة بأحداث عميقة في الوطن. فقد كان يدق بقوة في أسطح القصبة إبان الثورة المظفرة، كلما أعلن عن تنفيذ حكم الإعدام في شهيد تعبيرا عن الرفض. كما أن لونه الأصفر الذهبي يزيد من جاذبية المكان، ويعتبر رمزا للطبخ "البنين" الذي تنشده كل ربة بيت، ويستحيل أن تحضر "مشطات السردين" ذات الرائحة الذكية، دون أن تدق فيه الثوم وحبات الحار الحمراء الصغيرة، "المساء" جالت الأسواق وتحدثت لأهل الاختصاص للإجابة على السؤال التالي: هل مازال "المهراس" مطلوبا في البيوت الجزائرية؟

"المهراس" النحاسي فخر المطبخ

جلنا أسواق العاصمة المختلفة شرقا وغربا للإجابة على هذا السؤال، من ساحة الشهداء إلى باش جراح ومن بلكور إلى الخميس وعلى قدر الغرابة التي وجدناها من المواطنين حول سؤالنا وكيف طرح على فكرنا، كانت الأجوبة غزيزة بخصوص هذا الشيء الذي يعتبره الكثيرون، خاصة ربات البيوت أنيسا وصانعا للديكور ومكملا للنكهة الأصيلة التي ورثت عن الجدات. تقول السيدة حليمة (65 سنة) من باب الوادي"، هل يعقل أن يكون هناك بيت بدون مهراس؟ من أهم الأشياء التي تبنى عليها "الخيامة"-أي المطبخ -  الجزائري، شخصيا لدي "مهارس" نحاسية بأحجام مختلفة، فهناك الكبير والمتوسط والصغير، وكلها ذات مكانة رفيعة في قلبي، فأكبرها هدية من أمي ـ رحمها الله ـ التي أحضرته لي بعد دخولي عش الزوجية بأيام معدودة، فقد أوصتني بتحضير الدرسة فيه لأن مكوناته المهروسة لها نكهة خاصة، كما أن والدتي كانت تستعين به في مطبخها، وأنا شخصيا أوصيت بناتي بوجوده في بيوتهن لأنه الوحيد القادر على إضفاء النكهة الأصيلة على مختلف الأذواق والآكلات الأصيلة، فعند رحي الثوم مثلا بالآلات العصرية لا نجد البنة التي يخلفها دق المهراس، لهذا مازلت أحرص على تحضير "درسة  السردين" و"الشطيطحة" به.
تحدثنا إلى يوسف بائع نحاس في ساحة الشهداء، الذي أشار إلى أن تجارة بيع "المهراس" رائجة على طول الزمان، أن هناك شابات في عمر الزهور يطلبن منه أن يختار لهن مهراسا لائقا لنقله إلى مطابخهن: يقول: "يعتبر المهراس النحاسي من الأدوات المنزلية المطلوبة بقوة من قبل السيدات على اختلاف أعمارهن، كما أن شعبيته كبيرة، فهو مطلوب من قبل الشابات المتزوجات حديثا أو العازبات، فهو مطلب كل راغبة في تقديم أجود المأكولات لعائلتها، فرغم المنافسة القوية التي يلقاها من مختلف الآلات و"الربوهات" التي باتت تعمل عمله، إلا أنه لا يزال محافظا على حضوره في المطبخ بقوة. ويضيف محدثنا قائلا: "لقد غزا "المهراس" الرخامي السوق وله رواده، فهناك من يرى أنه مناسب للطبخ والزينة في نفس الوقت".

شباب اختار الاستثمار في صناعة المهراس

أكد الشاب الياس بوضياف، حرفي في صناعة "المهراس"  النحاسي من التلاغمة ولاية ميلة، أن صناعته حرفة تعلمها من خاله الذي أمضى عمره في صناعة "السني" النحاسي و"المهراس"، وهي الحرفة التي ورثها لأبنائه وأبناء أخته وكان هو واحد منهم يقول: "لقد تعلمت هذه الصنعة من خالي، وأسعى إلى الحفاظ عليها وتوريثها لأولادي، ولأجل تحقيق هذا الهدف استفدت من قرض من الوكالة الوطنية لتسيير القرض المصغر وحققت حلمي وبدأت العمل في ورشتي الخاصة".
وحول كيفية الحصول على المادة الأولية، قال الحرفي الياس: "النحاس من المواد الأولية باهظة الثمن، لهذا نحن نبتاعه من أصحاب الخردوات بالميزان بين قنطار إلى 10 قناطير، وبعد الفرز أقوم بعملية التدوير، ثم أصنع مختلف القطع"، وحيال كيفية صناعته والوقت الذي يحتاجه والميزان الذي لابد أن يكون عليه، قال الحرفي: "نحتاج إلى قوالب من الرمل والماء لنضع فيها النحاس المذاب في 1200 درجة حرارة مئوية حتى يصبح جاهزا للصناعة، ثم نقوم بوضع قالب آخر من الرمل المبلول بالماء في قلبه، بعدها نقوم بتصفيته من القالب وننزع الرمل ويخرج براقا، بعدها نزينه باليد. "المهراس" في أيامنا هذه بات أخف مما كان عليه في وقت سابق، فكلما ثقل وزنه زاد سعره، فمهراس زمان كان بوزن 4 أو 5 كيلوغرامات، يعني سعره 5000 دج، لهذا فأغلب ما نصنعه أقل بكثير من الوزن الذي كان يعرف عليه قديما، لكن حين يطلب مني الزبون الوزن عينه أحضره له، وفيما يخص الوقت الذي يحتاجه لصناعة "مهراس" قال محدثنا: "أحتاج 7 دقائق لصناعته".
أكد محدثنا بحكم اختصاصه أن الناس تطلب "المهراس" كثيرا، يقول: "أول عرض تلقيته عندما بدأت العمل من تاجر جملة طلب مني عددا معتبرا منها، وقد جلت 44 ولاية من الوطن وهو مطلوب بها، إلا أن الولايات التي تستعمل المهراس بقوة هي كل من ورقلة، غرداية، قسنطينة، تلمسان، وهران وتبسة، ففي ديار هذه الولايات يوجد قرابة 10 مهارس في كل بيت، حيث تتعدد استعمالاتها بين المطبخ، تحضير العقاقير وصناعة الكحل ودق الحناء.
وعن طموحه المستقبلي قال محدثنا: "أريد الحصول على ورشة صغيرة بعيدة عن الحي الذي أسكن فيه، لأنني أريد أن أكبّر مشروع مصنع للنحاس وإضافة صنع الألمنيوم حتى أتمكن من تحقيق مطلب الكثيرين والمتمثل في صنع القدور والطاجين".

المهراس الخشبي لـ"الزفيطي" و"الحميس"           

وإذا كان المهراس النحاسي صاحب شعبية كبيرة بالعاصمة وفي بعض ولايات الوطن، ووجوده ضرورة حتمية، فإن المهراس الخشبي المعد خصيصا لتحضير "الزفيطي" البوسعادي أو هرس "الحميس" القبائلي، وكذا تحضير "الشخشوخة" موجود في الكثير من الولايات الداخلية، تقول السيدة زهرة من الجلفة: "المهراس سيد المطبخ، فمن أرادت طعاما لذيذا عليها به، إنه موروث الجدات الذي مازال يحفظ طعم الأكل الصحي واللذيذ، شخصيا أمتلك مهراسا خشبيا كبير الحجم بطول 50 سم، أهرس فيه خبز "الشخشوخة"، وأحضر به مختلف الأطعمة التي لا يحلو ذوقها إلا إذا هرست به، كما أن طعم ما يحضر فيه رائع، فرغم أن أبنائي متزوجون ويسكنون بعيدا عني، إلا أنهم عندما يأتون لزيارتي يطلبون مني تحضير بعض الآكلات التقليدية بواسطة المهراس.  
يعتبر الصادق طالب حرفي من ولاية البويرة مختص في صناعة الأواني الخشبية، على غرار الصحون، القصع، الكوؤس والمهراس أيقونة المطبخ الجزائري من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، يقول: "المهراس مطلوب مثلما كان عليه الوضع بالأمس،  فعند مشاركتي في المعارض المختلفة عبر ربوع الوطن، لاحظنا أن هناك شبابا من الجنسين يسألنا عنه. وبفعل كثرة المعارض بات الناس يعرفون أنواع المهارس المختلفة، من الصغير إلى الكبير، شخصيا عندي 7 أنواع منها، بداية من الكبير الذي يحضر فيه "الزفيطي" والمتوسط للفلفل أو "الحميس"، ففي كل ولاية هناك مهراس رائد ومطلوب يحضر به نوع معين من الأطعمة، أما الصغير مثلا فهو مخصص لدق الثوم والقصبر، وشخصيا أجد سعادة كبيرة في هذا العمل الذي يعد حفظا لإرث الأجداد".

"المهراس" كان حاضرا إبان الثورة        

يقول المؤرخ امحمد بن مدور بأن المهراس كان حاضرا إبان الثورة التحريرية، حيث كانت النساء يضربن به بقوة على سطوح القصبة عندما تداهم فرنسا البيوت وتقتاد المجاهدين أو المناضلين إلى "سركاجي"، أو عند سماع خبر إعدام مجاهد، حيث تدق المهاريس، وهي النقطة التي أثارت انتباهي لما لها من علاقة بالوجود العثماني في الجزائر، فقد ورد في بعض المذكرات أنه خلال الفترة العثمانية لما كان يخرج الأسطول البحري، كانت النساء يزغردن ويدقن المهاريس من السطوح، ونفس الفعل تكرره في العودة، مما يرجح أن العلاقة تعود للعهد العثماني، وما كان يحدث في القصبة من احتاج باستعماله بمعنى "يا فرنسا رغم أنك أعدمت ذلك المجاهد فإننا سنصبر حتى نيل الحرية، وهذا ما شعرت به وعشته"، وهي عادة ترجع كلما كان الحدث كبيرا، فعندما لعبت الجزائر ومصر خرجت النساء وضربن بالمهراس بقوة..  إنه جزء من ثقافتنا، وأظن أن الأمر له علاقة بالصوفية والروحانية أيضا".