اِستُبدلت بمساحات رقمية للتعبير عن دواخل الذات

المذكرات الورقية تنسحب من يوميات الأفراد

المذكرات الورقية تنسحب من يوميات الأفراد
  • 128
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

إن تغير العالم السريع جعل الكثير من العادات القديمة تختفي بهدوء. ومن بينها عادة كتابة المذكرات اليومية في دفاتر صغيرة، والتي تخبَّأ في أدراج خشبية، أو تحت الوسائد؛ إذ كان كثير من الأفراد، خصوصا المراهقين والشباب، يجدون في تلك الصفحات، مساحة آمنة، يكتبون فيها مشاعرهم، وأسرارهم، وأحلامهم دون خوف من نظرة الآخرين. حيث كانت المذكرات صديقة صامتة، تحفظ الهموم، وتخفف الضغط، وتشبه حوارا شخصيا لا يسمعه أحد، حافظة للأسرار. ومع ظهور الإنترنت وانتشار الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، تراجع هذا التقليد إلى حد كبير. وأصبح كثيرون يستبدلون أوراق الدفتر بورقة رقمية مفتوحة أمام الجميع، لا يهمُّ عدد متصفحي تلك المنشورات، ومدى قساوة بعض الأحكام الملقاة أحيانا. 

ومع هذا التحول المتسارع في أساليب التعبير والكتابة أصبح البعض يتساءل عن سبب اختفاء تلك التفاصيل البسيطة من حياتنا رغم أنها كانت تحوي جمالا لا يعرفه إلا جيل عاش تلك الحقبة، يعتمد حينها على قلم ودفتر صغير لكتابة ما يدور في باله. كلمات، قصص، وخواطر وحتى أحيانا أبيات شعرية، وأحيانا أخرى مجرد تواريخ لتعود بصاحبها الى فترات ربما مميزة من حياته، تذكّره مثلا، بأول خرجة مع العائلة، أو مغامرة مع الأصدقاء، أو قصة حب، أو أول لقاء، وغيرها من التفاصيل بين الممتعة والسعيدة، والأخرى القاسية والحزينة.

وحول هذا الموضوع أكد محفوظ حبيب، أستاذ علم الاجتماع، أن هذا التحول لم يأت فجأة، بل هو تراكم سنوات من تغير طريقة تواصل الناس مع أنفسهم ومع الآخرين. وأوضح أن المذكرات كانت أداة للتأمل الذاتي للتفريغ، والفضفضة، أو مجرد وسيلة لتدوين بعض الملاحظات، بينما اليوم تحولت مواقع التواصل الى بديل لذلك، وإلى منصة للعرض، والمشاركة السريعة.

وقال المتحدث إن الفرق الأساسي يكمن في طبيعة الجمهور، فبينما كانت المذكرات تُكتب للكاتب وحده، سرية الى حد ما، أصبحت المنشورات اليوم توجَّه لجمهور أوسع، حتى وإن كان افتراضيا يبقى ذلك مجرد تفصيل بالنسبة لهؤلاء. هذا التغير جعل الكثير من الأسرار التي كانت تُكتب بخط صغير في دفاتر مغلقة، تُنشر الآن بكلمات مختصرة، وصور مرفقة بوجوه مبتسمة رغم أن الشعور الحقيقي قد يكون مختلفا تماما عما هي عليه تلك الكتابات، والصور المرفقة.

ويرى الأستاذ أن هذا الانفتاح العلني قد يحمل جانبا إيجابيا؛ لأنه يتيح للناس التعبير عن أنفسهم، والعثور على من يشبههم أو يفهمهم، ولكنه يحمل كذلك سلبيات؛ إذ انه يشير في الوقت نفسه إلى أن المشاركة المفرطة قد تسبب ضغطا نفسيا؛ لأن الشخص يصبح أسير ردود الأفعال، والتعليقات، والإعجابات الجماعية حتى من طرف غرباء لا تربطهم أحيانا بصاحب المنشورات لا اللغة، ولا الثقافة، ولا غيرهما.

ويشرح الأستاذ أن كاتب المذكرات في الماضي لم يكن ينتظر تقييم أحد، بينما يعتمد الكثيرون اليوم على رأي الآخرين، ليشعروا بالرضا عن أنفسهم، وهذا يخلق دائرة من القلق والحماس في آن واحد.

ويذكر بعض الشباب ممن مسهم استطلاع “المساء” خصوصا من الفتيات، أن كتابة المذكرات لم تختفِ تماماً، لكنها أصبحت أقل حضورا، وأن التكنولوجيا منحتهم وسائل مختلفة لحفظ مشاعرهم؛ مثل التطبيقات المغلقة، أو الملاحظات الخاصة على الهاتف. ومع ذلك يقر كثيرون بأن شعور الإمساك بالقلم وملامسة الورق لا يشبه الكتابة على الشاشة، وأن الدفتر كان يمنح نوعا من الحميمية والخصوصية التي يصعب استعادتها في الزمن الرقمي.

ويؤكد الخبير الاجتماعي في الأخير، أن العودة إلى كتابة المذكرات قد تكون جيدة لتوازن تفكير المجتمع في ظل ازدحام المعلومات، وضوضاء اليوميات المنشورة على الإنترنت؛ لأنها تمنح مساحة هادئة للتفكير دون رقابة أو مقارنة، لكن ـ يضيف ـ الحل ليس في اختيار طريقة واحدة والاعتماد عليها أو العزلة الرقمية، لأن الأنترنت أصبح جزءا من الحياة اليومية، بل في تحقيق توازن بين ما نشاركه مع الآخرين وما نحتفظ به لأنفسنا؛ فالأنترنت قد يقرب المسافات، لكنه في بعض الأحيان يدفع الناس إلى الابتعاد عن ذواتهم دون أن يشعروا.