واحد من رموز التراث الجزائري
القفطان العنابي... أناقة خالدة عبر الزمن

- 223

يتجلى "القفطان" العنابي كرمز من رموز التراث الجزائري العريق، ويفرض نفسه كواحد من أفخم وأقدم "القفاطين" التي صنعتها الأيادي الجزائرية المبدعة، ولا يزال يُرتدى إلى يومنا هذا، محتفظًا بأصالته وسحره الذي لا يُقاوَم. في مدينة عنابة الساحلية، الواقعة شرق الجزائر، لا يُعتبر "القفطان" مجرد لباس يُلبس في المناسبات، بل هو جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والموروث الشعبي، وهو ما جعل منه لباسا خالدا يتوارثه الأجيال.
ترتبط شهرة مدينة عنابة ب"القفاطين" المميزة التي تزين خزائن العرائس والمناسبات الكبرى، وأشهرها "القفطان" العنابي، المعروف بألوانه الراقية وتطريزه الفاخر، المسمى طرز "الزلابية بالفتلة". هذه الحرفة الدقيقة تُنفذ بخيوط ذهبية أو فضية، وتُعد واحدة من أرقى وأصعب أنواع الطرز التقليدي، حيث تتطلب مهارة كبيرة وصبرا طويلًا، ما يزيد من قيمة "القفطان" وجماله.
حملت عنابة على عاتقها، مسؤولية الحفاظ على هذا النوع من اللباس التقليدي، وعملت على تطويره دون أن تمس بجوهره، ما جعله يتأقلم مع متغيرات الزمن، لكنه ظل محافظًا على نكهته التاريخية. تميزت عنابة عبر العصور بأنواع مختلفة من القفاطين، مثل "قفطان الدلالة"، الذي كان يُلبس من طرف نساء الطبقة الراقية وذوات الجاه، و«قفطان القرنفلة"، الذي استُوحي اسمه من زهور القرنفل، ويُصمم بألوان زاهية وتطريزات ناعمة، بالإضافة إلى "قفاطين" أخرى لا تقل جمالًا وتاريخًا.
رغم اختلاف الأشكال والقصات والتصاميم بين هذه "القفاطين"، فإن ما يجمعها ويمنحها وحدتها، هو طرز "الزلابية العنابي بالفتلة". هذا التطريز يُعد علامة مميزة لا يمكن فصلها عن "القفطان" العنابي، حيث تُرسم به زخارف نباتية وهندسية، تشبه لوحات فنية صغيرة، تُطرز على القماش بكل دقة وإتقان. وتُستخدم في هذه "القفاطين" أقمشة فاخرة، مثل المخمل (القطيفة)، والحرير، و"التفتة"، لتضفي على اللباس لمسة من الفخامة والرقي، تجعل منه لباسًا ملكيًا بامتياز.
يُعد اللون "العنابي"، من أبرز الألوان المستعملة في هذا النوع من "القفاطين"، نسبةً إلى مدينة عنابة نفسها، يليه اللون البني بدرجاته، ما جعل البعض يسمونه أحيانًا "القفطان البوني"، في إشارة إلى العمق التاريخي والعراقة التي يتمتع بها هذا اللباس. فهذه الألوان الداكنة والدافئة لا تعكس فقط فخامة اللباس، بل أيضًا طبيعة البحر والمناخ المتوسطي الذي يميز المدينة.
عرف "القفطان" العنابي، انتشارًا واسعًا في السنوات الأخيرة، بفضل جهود الحرفيين والمصممين، الذين أعادوا تقديمه بلمسات عصرية دون المساس بروحه التقليدية. فبات "القفطان" اليوم يُلبس في الأعراس، والاحتفالات الوطنية، والمهرجانات، وحتى في عروض الأزياء، حيث أصبح يُمثل الجزائر في المحافل الدولية، كأحد رموزها الثقافية الخالدة.
لم تتوقف الإبداعات عند التطريز فحسب، بل دخلت الأحجار الكريمة، والخرز، واللؤلؤ، وحتى الزرابي التقليدية كأفكار تزيينية مضافة على "القفطان"، ما زاد من ثرائه البصري وجعله يضاهي أرقى الأزياء العالمية من حيث الفخامة.
كما تحرص نساء عنابة، والجزائريات عمومًا، على ارتداء هذا "القفطان" في أهم المناسبات، كحفلات الزفاف، والحناء، والختان، والخطوبة، لأنه لا يمثل فقط لباسًا جميلًا، بل يُجسد الانتماء للهوية والاعتزاز بالأصول، ويُعيد إحياء روح الجدات والنساء الأوائل اللواتي كن يطرزن "القفاطين" على ضوء القناديل في ليالي الشتاء الطويلة.
يُعد "القفطان" العنابي أكثر من مجرد لباس تقليدي؛ إنه مرآة لتراث غني وثقافة متجذرة في عمق التاريخ. وبفضل الجهود المتواصلة للحفاظ عليه وتطويره، يظل "القفطان" العنابي أحد أعمدة اللباس التقليدي الجزائري، ودليلًا حيًا على أن الأناقة الحقيقية لا تبهت، بل تزداد بريقًا مع الزمن.