عادات عنابية أصيلة لتحفيز الطفل على الدراسة

"السفنج" أو "الخفاف".. فأل خير بسنة موفقة

"السفنج" أو "الخفاف".. فأل خير بسنة موفقة
  • 129
سميرة عوام سميرة عوام

تحتفل العائلات العنابية، كعادتها كل سنة، بدخول أبنائها لأول مرة إلى المدرسة، فاستقبلت هذا الحدث المميز بعادات وتقاليد متوارثة، تمثل ركيزة من ركائز الهوية الثقافية والاجتماعية في المدينة. يتجلى هذا الاحتفال من خلال إعداد مأكولات خاصة، أشهرها "السفنج" أو "الخفاف"، الذي لا يقتصر على كونه طبقًا شعبيًا، بل يحمل في طياته رمزية عميقة، تمزج بين الفرح، والتفاؤل والدعاء بالنجاح والتوفيق.

لا يكاد يخلو بيت عنابي، من رائحة السفنج الزكية في أول يوم دراسي للطفل الصغير، ذلك الطفل الذي يُعدّ هذا اليوم بداية لمسيرة علمية واجتماعية جديدة في حياته. في هذا السياق، تتكفل الجدة أو امرأة مسنّة من العائلة بإعداد هذا الطبق التقليدي، باعتبارها "بركة الدار"، وحاملة الذاكرة الشعبية، وخزان العادات التي لا تندثر.

يُعدّ السفنج بطريقة تقليدية موروثة، من مزيج من السميد، والفرينة، والخميرة، والسكر، ويُقلى في الزيت حتى يصبح ذهبي اللون، ثم يُزين بحبات الزبيب أو يُرش بالسكر الناعم. هذه المكونات البسيطة تحمل معها عمقًا رمزيًا: الطهارة، الحلاوة، والنقاء، كما أنها مرتبطة بتقاليد الكرم والضيافة في الثقافة العنابية.

وفق الموروث الشعبي، يُعتقد أن أكل الطفل للسفنج أو "الخفاف" في يومه الأول الدراسي يجلب له الذكاء، الفطنة، خفة الدم، والقبول، وتُقال له عبارة شهيرة: "فال الخير وخِفّة الرأس"، تعبيرًا عن الأمنيات بأن تكون بدايته الدراسية موفقة ومزدهرة.

طقوس التوزيع.. من بيت العائلة إلى أحياء المدينة

لا يتوقف الاحتفال عند تحضير السفنج فحسب، بل يتعداه إلى تقاليد التوزيع والمشاركة، التي تُعبّر عن قيم أصيلة مثل التعاون، التراحم، والتواصل الاجتماعي. تقوم العائلة بتوزيع السفنج على الجيران، الأقارب، والأصدقاء، في جو مليء بالفرحة والضحكات والدعوات الصادقة.

تلك المبادرة ليست مجرد عادة، بل هي رسالة حب وامتنان للمحيط العائلي والمجتمعي، وتجعل من يوم الدخول المدرسي مناسبة جماعية، تحتفي فيها الأسرة والمجتمع بالطفل وكأنه "ضيف شرف". وفي المقابل، يزور الأقارب والجيران الطفل في بيته، ويقدمون له الهدايا، والمصاحف الصغيرة، والأقلام، وحتى النقود الرمزية، تشجيعًا له على بداية عام دراسي جديد.

"البغرير" أو"الغرايف".. البديل الحلو والأنيق

في بعض البيوت العنابية، تُفضل العائلات تحضير طبق آخر بنفس المعنى الرمزي، وهو "البغرير" أو "الغرايف". يتميز هذا الطبق بقوامه الخفيف والمليء بالثقوب الصغيرة، ويُقدم عادة مدهونًا بالعسل أو الزبدة، مما يجعله محببًا للصغار والكبار على حد سواء.

ويُعتبر البغرير، بديلاً راقياً ومحبوباً عن السفنج، ويحمل نفس الدلالة الرمزية: فال خير، ورغبة في الحلاوة والنجاح والبركة. تقوم بعض الأمهات بتزيينه بقطع الفواكه المجففة أو السكر الناعم، ليكون شكله مبهجًا عند تقديمه للطفل والمدعوين.

تأثير نفسي إيجابي على الطفل

تُجمع العديد من الدراسات التربوية والنفسية على أن إشراك الطفل في طقوس احتفالية بمناسبة دخوله المدرسة لأول مرة يساهم في تعزيز ثقته بنفسه

تحفيز حماسه للدراسة، تخفيف التوتر أو القلق من البيئة الجديدة، تقوية علاقته بالعائلة والمحيط.

وفي السياق العنابي، فإن هذه العادة تمنح الطفل إحساسًا عميقًا بالأهمية، وكأنه "بدأ مغامرة جميلة"، خاصة وأنه يرى الجميع يهنئونه، ويهتمون به، ويقدمون له الهدايا. وهذا ما يجعل أول يوم دراسي محفورًا في ذاكرته كأحد أجمل أيام الطفولة.

موروث تاريخي غني ومتجذر

تعود هذه العادات في جذورها إلى فترات قديمة من تاريخ المنطقة، حيث كانت العائلات تحتفل بكل محطة تعليمية أو دينية بطريقة جماعية. فكما كانت العائلات تحتفل بختم القرآن أو الدخول في الكُتّاب، أصبحت تحتفل اليوم ببداية التعليم المدرسي.

وقد تطورت هذه العادات مع الزمن، لكن بقيت القيم الأصلية نفسها: تقدير العلم، دعم الطفل، المشاركة الاجتماعية، والتفاؤل بالمستقبل. وتحكي بعض الجدّات أن هذه العادة كانت منتشرة أيضًا في أحياء عنابية قديمة مثل "لاكولون"، "سيدي سالم"، "بوزراد حسين"، و"جبانة ليهود"، حيث كانت النساء يتنافسن في إعداد أفضل سفنج، ويُقال إن "الطفل الذي لا يأكل خفاف جدته لا يفلح في القراءة" – وهو مثل شعبي ساخر يعكس مدى ارتباط السفنج بالحياة الدراسية.

مقارنة بعادات ولايات جزائرية أخرى

رغم أن هذه العادة ترتبط بشكل خاص بمدينة عنابة، إلا أن ولايات أخرى في الجزائر تعرف طقوسًا مشابهة، تختلف فقط في التفاصيل في قسنطينة، تُعدّ بعض العائلات "المطلوع" أو "خبز الدار" للأطفال الجدد. في الجزائر العاصمة، تُقدم الحلوى الجافة والمشروبات الغازية مع الهدايا.

أما في مناطق الجنوب الجزائري، فقد يتم استقبال الطفل برش العطر والبخور، وتُقرأ عليه آيات من القرآن الكريم. لكن تبقى السفنج والعولة في عنابة رمزًا خاصًا يصعب تقليده، بحكم ارتباطه بالذاكرة الجماعية وطابع المدينة الفريد