حين يتحول التهكم الى لغة تواصل

"السخرية الرقمية".. احتجاج صامت أم انحدار قيمي..؟

"السخرية الرقمية".. احتجاج صامت أم انحدار قيمي..؟
  • 355
 نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

 ❊ السخرية درع نفسي للتعايش في ظروف غير مرضية

في الأزقة المزدحمة أو حتى داخل غرف النوم المضاءة بشاشات الهواتف، يقضي آلاف الشباب ساعات طويلة في صناعة أو متابعة مقاطع فيديو قصيرة على "تيك توك"، "إنستغرام"، و"يوتيوب"، وما يثير الانتباه ليس فقط الوقت أو الإدمان، بل نوعية المحتوى... سخرية لاذعة، أو ما يعرف بالفكاهة السوداء أو حتى السخرية الثقيلة، لا يسلم منها شيء، لا الدين ولا السياسة، من المدرسة إلى الزواج، من العائلة إلى الوطن ذاته، لا شيء ينجو من "الكوميديا السوداء"، التي أصبحت السمة الأبرز لهذا الجيل الرقمي، جيل "تيك توك"...كل شيء مسموح.

وفي مشهد ساخر انتشر، مؤخرا، فيديو لشاب يقلد طريقة تدريس أستاذ جامعي بأسلوب فض وغير ناضج، يصف الجامعة بـ"مزرعة المواشي"، وينتهي الفيديو بعبارة: "اقرا باش تشقى، ماشي باش تنجح"، حصد الفيديو أكثر من 3 ملايين مشاهدة في يومين، وتعليقات بالآلاف، أغلبها من شباب يتشاركون الإحساس ذاته: "الجامعة فقدت قيمتها"، و في حقيقة الامر، هو من فقد الشغف لبناء مستقبل، بعد أن توجه الاهتمام نحو امور تافهة لا تبني لا الشخص ولا المجتمع.

قد يبدو الأمر للوهلة الأولى مضحكا ظاهريا، في بعض المشاهد، لكن جوهره يكشف عن نمط جديد من التعبير عن الإحباط. فبدل أن يعبر هؤلاء عن رايهم او وجهة نظرهم إزاء موضوع معين او ظاهرة او واقع، من خلال خطاب واضح او كتابة نقدية، يختارون أسلوب السخرية كوسيلة جديدة للتنفيس، والتي يبدو أن الكثيرين يتفاعلون معها خصوصا اذا مست واقعا يهمهم أو حالة عاشوها من قبل، ليس ذلك فقط وإنما احيانا طريقة هؤلاء في التعبير عن رغبتهم في التغيير أو عدم رضاهم حتى وان كان بالنسبة للبعض لا يعجبهم العجب..

كل شيء قابل للسخرية تحت غطاء  حرية الراي والتعبير

في محتوى شبكات التواصل، لا "تابو" تقريبا، خصوصا وسط جيل اليوم بعض الفيديوهات تسخر من الطقوس الدينية، أخرى من صور المسؤولين، وهناك من يحول مشاهد او صور "ميمات" ضاحكة، آخرون يعربون عن تمردهم ضد القوانين، واخرون لا يهتمون لحدود خصوصيات الأشخاص، بل يتعدون عليها بالضحك على مخلوقات الله، حتى من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين لم يسلموا هم أيضا من التهكم ، وبالرغم من خطورة الامر يرى خبراء حدثتهم "المساء"، أن هذا التجاوز للخطوط الحمراء لا يأتي من فراغ، بل هو في نظر البعض، محاولة لكسر الخوف وتملك الواقع عبر الضحك منه، وكأن تلك السخرية هي الدرع النفسي للتعايش في ظروف غير مرضية.

خلف الضحك.. غضب مكبوت

حول هذا الموضوع حدثتنا فريدة محداد، مختصة نفسانية، قائلة أن هذا النوع من السخرية المكثفة قد يكون مؤشرا خطيرا على نقمة جماعية مكبوتة، ووسيلة لتفادي الانهيار النفسي الجماعي، يعيشه غالبا شباب، ولا يعني أن تلك الحالة تعكس وجود مشكل في المنظومة وإنما قد يكون انتفاضة من شباب يبحثون عن واقع مختلف.

واضافت في هذا الصدد أن الشباب اليوم يعيشون حالة انعدام الثقة في كل شيء تقريبا المدرسة، المستقبل، الزواج، حتى ايمانهم وعقيدتهم، وبدل أن يواجهوا الألم مباشرة، او يحاولون تغييره، يسخرون منه.. وتشدد: "الفكاهة السوداء كانت دوما سلاح الفئات المقموعة عبر التاريخ… لكنها أيضا سلاح خطير حين يتحول إلى حالة دائمة من الاستهزاء ومحاولة المساس بقيم لا يجدر المساس بها".

وتقول المختصة "إن كثافة الخطاب الساخر لدى الشباب، خصوصا عبر التيك توك، ومختلف منصات التواصل الاجتماعي، ليس مجرد تعبير حر، بل في كثير من الحالات علامة على اضطراب داخلي لم يمنح مساحة صحية للتفريغ، ونحن اليوم  أمام جيل لم يسمح له بالغضب، ولا بالبكاء، او بالأحرى لم يتم الحوار معه عن اسباب تلك المشاعر المتراكمة، ولا حتى بالتعبير عن الخيبة بوضوح…"، مضيفة: "لذلك اتجه إلى الضحك، ليس لأنه سعيد، بل لأنه لا يملك وسيلة أخرى للتنفيس"، وتشير إلى أن المحتوى الساخر، خصوصا حين يتكرر بشكل يومي ومفرط، يمكن أن يكون في الحقيقة قناعات يخفي حالات اكتئاب مزمنة، أو شعورا عميقا باللاجدوى، في حين يسخر الشاب من الجامعة، من الزواج، من الأهل، ومن المستقبل بكل مقدساتها،  فهذا يعني أنه فقد الأمل في كل هذه الرموز، وقد تتحول هذه السخرية إلى احتقار للذات، ومنه إلى انسحاب مجتمعي خطير.

تفكك رمزي يحدث بصمت

على صعيد اخر وفي حديث مع الخبير الاجتماعي حمزة بن معمر، فيرى من جهته أن انفجار المحتوى الساخر على منصات التواصل، خاصة بين فئة الشباب، "ليس ظاهرة ترفيهية معتزلة، بل مؤشر اجتماعي دقيق على تفكك رمزي يحدث بصمت"، ويقول: "حين تصبح المواضيع الأكثر مشاهدة على تيك توك هي التي تسخر من الزواج، التعليم، الدين، وحتى صورة الأب أو الأم، فذلك يدل على أن الجيل الجديد فقد ثقته في البنى التقليدية للمجتمع، ولم يعد يرى فيها أية سلطة أو قدسية تستحق الاحترام"، ويضيف أن "هذه السخرية لا تعني بالضرورة الانحلال، بل قد تكون محاولة لفهم واقع غير منطقي".

وشدد المتحدث على ان "هذا ناتج غالبا عندما يعيش الشاب في بيئة تقول له شيئا وتدفعه نحو واقع مختلف او يعيش نقيضا، وحين لا يجد وسيلة لفهم التناقض لا يجد حينها سوى السخرية. وبالتالي تصبح  آلية دفاعية"، مردفا: "لكنها تصبح خطرا إذا تحولت إلى أسلوب حياة دائم يجعل كل شيء محل سخرية، حتى القيم التي تحفظ التماسك الاجتماعي ».

"تيك توك" لترويج التفاهة..

ويضيف الخبير انه رغم أن "تيك توك" و"إنستغرام" مجرد أدوات، إلا أن خوارزمياتهما تروج بشدة للمحتوى المثير والغريب والصادم، ما يجعل الفيديوهات الساخرة والعنيفة تنتشر بسرعة، على حساب المحتوى الهادئ أو التوعوي، وهذا ما يشجع اشباه "صانعي المحتوى" على المبالغة والذهاب لأبعد حد في النقد والتهكم، أحيانا فقط من أجل "الاعجاب" والمتابعة.