دويّ الحناجر النسوية في الحرب التحريرية

الزغرودة.. ملهمة الثوار وشاحذة الهمم

الزغرودة.. ملهمة الثوار وشاحذة الهمم
  • القراءات: 6241
أحلام محيي الدين أحلام محيي الدين
هل هناك قوة أعظم من أن تلملم أم ثكلى شظايا الروح المبعثرة بين الدم والتراب الذي احتضن جثمان ابنها الساخن النازف دما.. بعد أن استقرت فيه رصاصات الغازي، فتطلق زغرودة وداع تخرج من الأعماق، لتزف روح ابنها الشهيد إلى ربها في جنات الخلد؟! زغرودة تُخلط بها حسابات المستعمر وتتركه مشدوها حائرا أمام هذه الشجاعة التي لا تُقهر... زغاريد في محفل الموت... تتبعها تكبيرة الرجال "الله أكبر، الله أكبر"... إنها قوة "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه..". وهي الزغاريد التي صدحت في القرى والمداشر والمدن، معبّرة عن الآمال والآلام والانتصارات التي صاحبت الثورة التحريرية التي انطلقت في 1 نوفمبر 1954. زغاريد طبعت الفرحة في يوم النصر في 5 جويلية 1962؛ حيث جادت الحناجر النسوية الجزائرية بها دون انتقاء للأعمار... فهي رنين الانتصار والحرية والفرح.
الزغرودة من أقوى التعابير التي رافقت البشرية في المناسبات المتناقضة؛ السارة تعبيرا عن نشوة الانتصار والأفراح، وفي الأوقات العصيبة تعبيرا عن التحدي وتجاوز الآلام.
وللزغرودة دلالات نفسية واجتماعية، وهي زاخرة بالمعاني والعواطف الجياشة، تلخّص رباطة الجأش عند نسوة خلّدهن التاريخ، بدءا من الخنساء الشاعرة المخضرمة المحتسبة لاستشهاد أبنائها الخمسة في سبيل الله ونصرة للدين، وانتهاء بحرائر الجزائر من أمهات الشهداء من المقاومات الشعبية إلى حرب التحرير المجيدة، مرورا بما تميزت به الحركات التحررية من أسماء بطلات تفوّقن على الرجال في الشجاعة.
فقد زغردت النساء لاستشهاد عمر المختار، وزغردن للالا فاطمة نسومر عند خروجها إلى المعارك، وزغرودة والدة العلاّمة ابن باديس عند عودته من تونس، وقد اغترف من العلم بالزيتونة، والتي أثرت فيه طوال حياته. ولاتزال الفلسطينيات يطلقن الزغاريد إلى يومنا هذا عند سقوط الشهيد.

عنوان الطاقة الروحية
للمرأة الجزائرية حكاية عميقة مع الزغرودة؛ فهي الوقود الحيوي والسلاح الفتّاك الذي استعملته إبان الثورة التحريرية المجيدة، ودفع بالرجال إلى ساحات الوغى، ووهبهم القوة والصبر والإصرار على مواصلة الدرب على مذبح الحرية.
فصدور زغرودة عن أم ثكلى كان يشحذ عزائم أبطال الجزائر، ويدفع بهم إلى مقارعة الاحتلال بصدور عارية في أغلب الأحيان وبأسلحة بسيطة إن توفرت. وإن الأمهات والزوجات والبنات بإطلاقهن لها يدركن أنهن يدفعن بأعز الناس عليهن إلى ميدان الشرف؛ طلبا للحرية، ودحرا للاحتلال الاستدماري الجاثم كالكابوس على صدور الجزائريين.
فاستقبال الأم الجزائرية لخبر استشهاد ابنها بالزغاريد أيام الثورة المجيدة، كان تعبيرا عن إيمانها بأن مثواه النعيم لقاء دفاعه عن العرض والأرض، فطالما شجعت فلذة كبدها على الالتحاق برفقاء الدرب في الجبل رغم إدراكها بأنها لن تنجب غيره، وأنها ستكون ثكلى أو سترعى الأيتام من بعده، إلا أنها كانت تحتضنه وتقبّل جبينه وتدعو له وتدفع به إلى درب الشهادة بعز يحبس الدموع، ويتجاوز الأنانية، ويعطي معاني أسمى للأمومة، وتصبح الجزائر في عينيها هي الأم الكبرى التي تحتاجه أكثر، وأنه لا بد أن يكون في مستوى النداء.
كما إن المرأة التي حملت طاقة الزغرودة أودعت نفسها أيضا للحرية؛ حيث كانت هذه "الزغرودة" الرمز تدوي في جبال الأوراس الأشم والقبائل لتحمل الجبال الصدى إلى بعيد، فتجعل منها سلاحا يخيف العدو وينبّه الأبناء، خاصة عندما تقوم المرأة بالحراسة في بعض الظروف، فتكون الزغرودة وسيلتها للاتصال في الإنذار بأي خطر تعلنه للأحياء والمداشر، ويصل صدى الزغرودة إلى المسامع عبر الفجوج والوديان.
هذا ما عاد بالمجاهدة الدكتورة أنيسة بركات المعروفة بـ "فاطمة" إبان الثورة، إلى تلك الأيام التي لم تمح السنوات الخمسون معاني الزغرودة لديها ولا دويّها ولا الأحاسيس التي كانت ومازالت تولّدها فيها وفي بنات جيلها.
فقد كانت الزغرودة المدوية تعلو صوت الدبابات والمدافع والرشاش، تقول الجاهدة الباحثة، التي هلّلت بطرح موضوع الزغرودة كبعد من الأبعاد الاجتماعية والنفسية للثورة التحريرية، والغوص في مدلولاتها؛ شأنها شأن الأنشودة والأغنية والمسرحية.
«نعم كان للزغرودة في أيامنا، تضيف المجاهدة، أثر عميق مازلت أعيش لحظات إطلاقها من طرف الأمهات والأخوات، علاوة على الأناشيد والأغاني الثورية التي كانت تؤديها الأمهات وهن يهدهدن أبناءهن قبيل النوم".
والزغرودة، عند محدثتنا، طاقة روحية، كما هي تعبير عن حالة نفسية فريدة في عشق الوطن وتجسيد الروح الوطنية، وكانت إيذانا
بقرب النصر الذي لم تكن تراه المرأة بعيدا. وتقول المجاهدة: "كنت

أنشط في المنطقة الخامسة، وكنت أجد القوة في سماع الزغرودة وهي تخرج من صميم القلب لتصل إلى القلب، وكانت تدفع المجاهدين إلى خوض المعارك دفعا".
المجاهد العقيد حسين سنوسي حول موضوع جزائر الحرية، لم يتمالك نفسه وهو يحدثنا عن وقع الزغرودة أيام الثورة التحريرية، ولم يستطع حبس دموعه وهو يستحضر معانيها في عشق الوطن، وبتأثر كبير يقول: "نعم، الزغرودة ملهمة، ووقعها في النفوس عجيب! لقد كانت ترسل الرجال إلى ساحات الوغى، كما كانت تبعث الرعب في قلوب قتلة الليل من مجرمي الاستعمار الفرنسي، خاصة عندما تصدر عن مجموعات كبيرة من النساء؛ كانت تعكس حقا شجاعة الأمهات والأخوات اللواتي يحوّلن مآتم الشهداء إلى أعراس".
أنهينا حديثنا مع مجاهدنا، ودموع التأثر لم تجف في عينيه، حينها أدركت معنى أن يسكنك الوطن، ومعنى أن تهيم عاشق الوطن.

الوسيلة الفعالة للتمويه
كما كانت الزغرودة التمويهية أيضا حاضرة في المدن، خاصة في قلب القصبة العتيقة، حيث كانت الزغاريد تعلو في أفراح استبشارية بفجر الحرية عند اجتماعات الرجال للتخطيط وتقسيم المهام، وهو الأمر الذي أشار إليه الدكتور أبو فاطمة متخصص في التاريخ الجزائري من جامعة الجزائر "2"، في صورة ضمت الزغرودة الريفية والمدنية، بأن للزغرودة مكانتها العميقة في الثورة التحريرية، وبما تحمله في جوهرها من مدلولات وأبعاد نفسية واجتماعية عميقة الأثر؛ كونها تعبيرا عن الفرحة والاستبشار، وذات وقع على الرجال لما تحمله من مفهوم الفحولة والرجولة والبطولة. وقد كانت سلاحا قويا في مقاومة العدو؛ حيث كانت حاضرة في استقبال الشهداء، وتوديع الأبطال والتعبير عن النصر، كما كانت نوعا من التشجيع الذي قدمته المرأة للرجل، فعلاوة على قيامها بالتمريض والتموين،
استطاعت أن تؤثر بالزغرودة عما يعجز عنه محافظ سياسي في مهرجان. كما كان للزغرودة الأثر العميق على نفسية الجنود، خاصة الزغرودة الريفية التي تُعتبر انتقائية وخالصة لجبهة التحرير، وكانت حكرا على الأم أو الجدة والمتقدمات في السن والمناضلات؛ لاعتبارات اجتماعية.
وكانت انتقائية في المدن، وتمويهية في نفس الوقت؛ لأن المناضلات كن يغلّفن الاجتماعات بالزغرودة، التي تنبئ عن وجود أفراح في مكان الاجتماعات أو اللقاءات السرية للحركة الوطنية، للإيهام بأن المجتمعين بالدار في فرح.
أما الزغرودة الأخرى المميزة والتي لم تكن تلقائية، فهي زغرودة الاستقلال أو زغرودة النصر التي شاركت فيها الصغيرات أيضا، للتعبير عن الفرح اللامحدود والانعتاق؛ فهي انفجار داخلي لفرح ظل مؤجلا.

السينما تخلّد صوت الحرب والانتصار
الزغرودة، على أهميتها التي لا يختلف فيها اثنان، لم تولَ حقها من الاهتمام إلا في الأحاديث الجانبية على إحياء ذكريات الثورة المجيدة إذا كان هناك من يثيرها، ولولا السينما عبر الأفلام الثورية ـ على قلّتها ـ مثل "الأفيون والعصا" و«معركة الجزائر" لطوى النسيان هذا البعد الاجتماعي في حياة المرأة الجزائرية خاصة، والجزائريين عامة. فقد كان للزغرودة حضور في هذه الأعمال الفنية، مدوية في أزقة القصبة وفي أروقة سجون الاحتلال وجلاّدوها يقودون أحد المناضلين إلى المقصلة فجرا؛ حيث تتداخل زغاريد الرفيقات السجينات بتكبيرات المساجين من المناضلين والمجاهدين.
فالزغرودة تعبير نسوي لم يغب عن الثورة التحريرية رغم الجراح والآلام، وهي نفس الزغرودة التي دوت في ربوع الوطن؛ فرحةً بطلوع شمس الحرية يوم 5 جويلية، وصاحبت الانتصارات التي سبقتها وتلتها، وهي التي لازالت ترافق أفراح أجيال مولعة بعشق الوطن في جزائر العزة والكرامة.