الأخصائيون يقرون بالتخلي عن البعد الروحي في الاحتفال

الدعوة إلى وضع تصور متوازن للاستثمار القيمي بمولد خير الأنام

الدعوة إلى وضع تصور متوازن للاستثمار القيمي بمولد خير الأنام
  • القراءات: 560
❊ رشيدة بلال ❊ رشيدة بلال

يرى عدد من الأخصائيين تحدثت معهم المساء، عن القيمة الاحتفالية بمولد خير الأنام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أن الظاهرة الاحتفالية طغت عليها الصبغة المادية أكثر من الروحية، رغم الجهود المبذولة من طرف وزارة الشؤون الدينية وبعض الفاعلين في الحركة الجمعوية لترسيخ البعد القيمي، مشيرين إلى أن الدولة اليوم مطالبة بالتدخل الجاد لتنظيم هذه الاحتفالات التي أصبحت حتى وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورا في القضاء على أسمى صور التضامن والتلاحم الاجتماعي، بالاكتفاء بإرسال رسائل قصيرة وتبادل بعض صور الأطباق التقليدية، عوض التجمع العائلي في منزل واحد لاستذكار خصال خير البرية والدعوة إلى الاقتداء به.

القيمة الاحتفالية تراجعت لتراجع العائلة الممتدة

ترجع الأخصائية في علم الاجتماع، الأستاذة راضية صايفي، فقدان القيمة الروحية للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، إلى انحلال العائلة الكبيرة التي كان فيها للجد والجدة دور بارز في تكريس القيم الروحية في الاحتفال، وترى أن الانتقال إلى العائلة النووية المكوّنة من الأب والأم والأبناء، وتغير نمط الحياة، جعل بعضهم يتخلون عن مجموع العادات والتقاليد التي تكرس القيم الروحية لهذه الظاهرة الاحتفالية، الأمر الذي انعكس سلبا على الأبناء وكرّس لديهم بعض الممارسات التي تستقى من الشارع، وتروّج للعشوائية في الاحتفال، كإحراق المفرقعات وإزعاج الغير والتسبب في بعض الحوادث.

من أهم المظاهر الاحتفالية التي تكرس القيمة الحقيقية للاحتفال، والتي  بدأت تختفي بشكل ملفت للانتباه، نذكر منها ـ حسب الأخصائية في علم الاجتماع ـ الأناشيد التي تمجد لميلاد خير الأنام، إذ لم نعد نسمع مثلا،  الأطفال ينشدون بعض الأغاني التي نقلناها عن أجدادنا وكنا نرددها أسبوعا قبل موعد الاحتفال، منها مثلا زاد النبي وفرحنا بيه...، و«طلع البدر علينا...، إلى جانب تراجع بعض الأنشطة التي كانت تحرص عليها المساجد، كتنظيم مسابقات حول سيرة المصطفى، ماعدا في بعض الأحياء الشعبية، كل هذا جعلنا نسير يوما بعد يوم، إلى إلباس المولد النبوي الطابع الشكلي المادي الجاف في الاحتفال، وأفرغناه من محتواه القيمي، تقول الأخصائية الاجتماعية.

ظواهر مرضية شوهت قيمة الاحتفال

من جهته، يرى الأخصائي في علم الاجتماع بجامعة تيبازة، الدكتور حسين أيت عيسي، أن التغيّر الجوهري الذي مسّ الظاهرة الاحتفالية بالمولد النبوي الشريف في المجتمع الجزائري، اتّخذ منحنى سلبيا، حيث انتقلنا عامة من المغزى القيمي إلى تسليع هذه المناسبة الطيبة، مرجعا معلم الانحراف إلى سنوات التسعينات، حيث وفدت على عالمنا الثقافي فتاوى حجازية - وهابية بدّعت، ثم حرّمت عمليا كل مظاهر الاحتفال، بعد أن كانت العائلات الجزائرية تستقبل هذا اليوم الحافل بما توارثته من أساليب إبراز الفرحة، والاحتفاء بمولد خاتم الأنبياء، حيث كان الأطفال والشباب يبدعون في صناعة أجواء من البهجة المسالمة، انطلاقا من أشياء بسيطة ومحلية”.

كان من أهم نتائج هذه الفتاوى، حسب الأخصائي الاجتماعي، أن خلقت تناقضا بين ما استقر عليه العرف والخطاب الديني لدينا من جهة، وبين اتّجاه جديد راح ينتشر بسرعة مدهشة في المجتمع، وقال لقد خلق هذا التناقض تصادما في الأسرة الواحدة والمسجد الواحد والحي الواحد أيضا، وبما أن الطبيعة تأبى الفراغ، فقد كان من انعكاسات ذلك، تفشي ظواهر احتفالية مرضية، صارت لصيقة كل عام بمولد نبي الرحمة والسلام، ومنها إفراغ الاحتفال من محتواه الروحي، فجهد الجميع صار منصبا على تزيين الموائد واقتناء المفرقعات للأبناء دون أن يسمعوهم كلمة واحدة عن نبيهم العظيم وسيرته العطرة، ويجعلوا تلك الأجواء فرصة لغرس حب محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه في أخلاقه بوجه خاص، 

أما الثانية فتتمثل حسب الأخصائي في ثلاثية الفوضى والعنف والضجيج، كما هو الحال في حروب الشوارع التي تنطلق شرارتها بعد صلاة المغرب مباشرة، دون أدنى مراعاة أو رحمة بالأشخاص المسنين أو المرضى أو الأطفال الذين يبهرهم كل ما يبرق، وتسجل المؤسسات الاستشفائية عددا متزايدا من الإصابات الخطيرة كل عام، وتدق في كل مرة ناقوس الخطر عبر وسائل الإعلام، لكن بدون جدوى. بينما الثالثة تتمثل في ظاهرة الجشع والاستغلال للمشاعر الطيبة، ذلك الذي تعكسه ممارسات التجار الذين يسارعون إلى رفع أسعار السلع، في الوقت الذي يفترض في مثل هذه المناسبات الدينية، أن تعمّ صور التراحم والتضامن والتآزر، تقيدا بأخلاق نبينا الكريم.

انطلاقا من كل هذا، يتّضح حسب محدثنا، أن ترشيد الاحتفال بالمولد النبوي لا يقوم فقط على العامل الديني، إنما يتطلب تدخل الجهات الرسمية للإشراف عليه، دون احتكاره طبعا، بأن تبادر كل البلديات ـ مثلا ـ بالتنسيق مع منظمات وجمعيات المجتمع المدني وكذا المدارس ودور الشباب، إلى وضع تصور متوازن، معتدل ومتكامل للاستثمار القيمي في مثل هذه المناسبة، وتختزن طاقة تغيّرية عميقة وحقيقية.

نقل الاحتفال إلى العالم الافتراضي

بينما تعتقد الأخصائية في علم النفس الأستاذة مسعودة سعدوني، أن الاحتفال اليوم بالمولد النبوي الشريف تغلّبت عليه الصبغة التقليدية أكثر من الروحية، وتتضح ملامحها في تحضير مختلف الأطباق التقليدية وانشغال الأطفال بإشعال الشموع وإحراق المفرقعات، مشيرة إلى أن التركيز في الاحتفال على كل ما هو تقليدي، نتج عنه إهمال الجانب الروحي والقيمي، بدليل أن الحديث عن الاحتفال بهذه المناسبة يرتبط عادة بما يؤكل أو يستعمل في الاحتفال، كالشموع أو المفرقعات، وليس هناك أي اهتمام باستذكار هذه الشخصية العظيمة”.

ترى محدثتنا من جهة أخرى، أن التكنولوجيا بدورها أثّرت بصورة سلبية على شكل الاحتفال، وساهمت في التأثير على قيمته الروحية في السنوات الأخيرة، حيث نجد فئة الشباب خاصة تتبادل التهاني اليوم بهذه المناسبة برسائل قصيرة، ويحيونها بتبادل بعض الصور كتلك المتعلقة بالأطباق التقليدية والطمينة، مما يعني ـحسبهاـ أن الجانب المادي في الاحتفال هو الآخر يسير مع موجة التكنولوجيا إلى التلاشي، لأن التواصل في العالم الافتراضي، أصبح يقضي على كل صور التلاحم والتضامن الاجتماعي. مشيرة إلى أنه ورغم الجهود المبذولة من طرف وزارة الشؤون الدينية للإبقاء على القيمة الروحية، إلا أن هذا العمل يظل غير كاف، بالنظر إلى التأثير التكنولوجي الكبير الذي أساء إلى المفاهيم الدينية وأفرغها من محتواها.