من تصفيف الشعر إلى جلسات للبوح
"الحلاقة الشعبية".. خبيرة نفسانية بدون شهادة

- 302

* مُصغٍ آمن ... حين تتقاسم الهموم والتجارب
في زوايا الأحياء الشعبية، حيث تختلط رائحة الصبغة برائحة الشاي أحيانا، تتشابك ضحكات النساء مع طقطقة مجففة الشعر، تقف "الحلاقة الشعبية"، لا تحمل شهادة في علم النفس، لكنها تستقبل يوميا عشرات "الجلسات العلاجية" المجانية، وتقوم بدور لا يقدر بثمن "الإصغاء"، "التفهم"، "التفاعل"... وحتى "التحليل" أحيانا، لتصل إلى تقديم نصائح قد تكون مخرج مشكل، أو حل فوضى في حياة زبوناتها.
وبين أزقة تلك الأحياء الشعبية، حيث لا شيء بسيطا كما يبدو، تؤدي الحلاّقة دورا قد يتجاوز كثيرا مقصها ومشطها ومجفف الشعر الذي لا ينطفئ، هي ليست فقط سيدة ماهرة في ترتيب الخصل وتلوينها، بل أصبحت، مع الوقت، بمثابة "طبيبة نفسانية" تمارس العلاج النفسي العفوي، وسط رائحة الصبغات وهمسات النساء، دون أن تحمل أي شهادة في علم النفس.وقد تدخل امرأة في مقتبل يومها، متوترة من ضغوط الحياة، قلقة من تصرفات زوجها، أو مرهقة من أبنائها، أو من ضغوطات روتينها، وتخرج من عند الحلاقة ليس فقط بتسريحة شعر جديدة، بل ومعنويات مرتفعة، وكأنها عادت من جلسة عند أشهر الأطباء النفسانيين. فمن هي هذه "الطبيبة النفسية الشعبية، وكيف أصبحت الحلاقة الملاذ الآمن لفضفضة النساء ومداواة جروحهن العاطفية والنفسية؟
وما أن تبدأ الخدمة، تلبث الجلسة أن تتحول إلى فضاء شفاف للبوح، تبدأ الحكايات بالتسلل وسط رائحة مجفف الشعر وصبغات الشعر وطلاء الأظافر والشمع، وكأن هذا المكان، بتواضعه، منحها أمانا مفتقدا في بيتها، أو بين أقربائها، لتنتظر فقط اللحظة الجيدة، للبدء في سرد تسلسل الأحداث، لا مهتمة بمن تكون تلك الغريبة، التي تصفف شعرها، فيكفيها أن تكون ذات أذان صاغية، ولما لا صاحبة نصائح جيدة، لحل مشاكلها المختلفة.
أكدت الكثير من الحلاقات اللواتي حدثتهن "المساء"، خلال تجوالها بين عدد من تلك الصالونات، أن هناك نساء لا يأتين من أجل تصفيف الشعر، بل من أجل الراحة النفسية، ما يبرر تنقلهن لتلك الصالونات من حين لآخر، دون حاجتهن حتى لذلك، وأجمعن على أن الكثير من الزبونات تبدأ غالبا في رواياتهن مع حلاقاتهن بعلاقاتهن الزوجية أو حادثة مع زوجها، أو حتى آلاما مع زوجها، أو مشاكلها مع حماتها، ليزيد حماسهن في الحديث كلما كانت مستمعة، لا تقاطع، وتشاركها المحادثة، أو حتى تقدم لها نصائح جيدة.
المختص النفسي: الحلاقة تلعب دور المصغي الآمن
حول هذا الموضوع، تحدث منير شالابي، خبير نفساني، قائلا، إن ما يحدث في صالونات التجميل ليس غريبا، بل سلوك طبيعي ناتج عن حاجة الإنسان للبوح، فالنساء خصوصا، يقول، لديهن قدرة عالية على التعبير اللفظي والتفريغ العاطفي، وعندما تجد المرأة أمامها شخصا لا يصدر أحكاما، ويبدو متعاطفا، فإنها تشعر بالأمان لفتح قلبها. وأشار إالى أن الحلاقة، في هذه الحالة، تلعب دور ‘المصغي الآمن’، خصوصا أنها تمسك بجزء من جسم المرأة الحميمي وهو الشعر، هناك اتصال جسدي ونفسي، يجعل العلاقة بين الزبونة والحلاقة أكثر قربا من أي علاقة أخرى، حتى ولو كانت عابرة.
وأضاف المتحدث، أن الحلاقة بدورها، تتفاعل مع الزبونة، ليس دائما، كونها تحب سماع تفاصيل حياة الغير أو في كونها لطيفة أو تحب "الثرثرة"، بل لأن مهنتها تجبرها على الجلوس وجها لوجه مع نساء من مختلف الطبقات والهموم، وتتعلم مع الوقت، فن الاستماع والرد المناسب. تارة تقدم نصائح، وتارة تكتفي بهز الرأس، وأحيانا تقول جملة، تصبح مثل دواء للزبونة، عبارة عن نصيحة أو حكمة، أو حتى تعطيها مثالا عن تجربة سابقة عاشتها أو روتها لها أحد الزبونات سابقا.
وقال المختص، إن الحلاقة تصبح أشبه بسجل اجتماعي حي، تحفظ قصص الخيانة، الصداقة، الأمومة، الغربة، القهر، الحب، وحتى قصص الطلاق المتكررة، ميزتها أنها غريبة ويمكن أن لا ترى وجه الزبونة مرة أخرى، ليبقى ربما سرها حبيس ذلك الصالون للأبد، أو يتناقل بين ألسنة أجانب لا تعرفهن الزبونة أبدا، يؤكد الخبير، وهذا ما يريح أكثر في الحديث.
وفي الأخير، قال الخبير النفساني، يبدو هذا الواقع للوهلة الأولى، مضحكا، لكن الواقع أعمق من ذلك بكثير، فالمجتمع، في كثير من الأحيان، لا يوفر مساحة آمنة للبوح، ولا يثق الجميع في الأطباء النفسانيين، خاصة في الأحياء الشعبية، حيث ما زال هناك خجل من "زيارة الطبيب النفسي"، وهذا ما قد يسبب تراكم المشاكل أو ربما حالات نفسية تتطلب، في نقطة معينة، للفضفضة والحديث إلى من يمكنه، على الأقل، الإصغاء.