تعد من أقدم الألبسة الجزائرية الأصيلة

البلوزة الوهرانية لباس للزينة وموروث ثقافي يحاكي الزمن

البلوزة الوهرانية  لباس للزينة وموروث ثقافي يحاكي الزمن
  • القراءات: 1143
 رضوان ڤلوش رضوان ڤلوش

حفظ البلوزة كتراث مادي جزائري لدى "اليونيسكو"   

بلوزة الوقار والزعيم من أفخم الأنواع بوهران

تخرج 40 حرفيا في خياطة البلوزة سنويا

الهند تنافس الحرفيين في الشكل والتصاميم

لا تزال البلوزة الوهرانية بفخامتها وهندسة تصميمها الجميلة تقاوم الزوال، بعد مرور أكثر من قرنين من الزمن على ظهورها كلباس تقليدي مميز لسكان الغرب الجزائري، والتي حملت معها موروثا ثقافيا وحضاريا، وحتى حكايات وأساطير لا تزال تتداول إلى غاية اليوم، حاملة معها فخر ارتدائها من طرف بنات ونساء العائلات، كدليل على أصالة وعراقة سكان المنطقة، وعلى التنوع الثقافي والحضاري لكل منطقة من مناطق الجزائر، الشاسعة بتراثها وموروثها، لاسيما اللباس التقليدي.

عادت البلوزة الوهرانية بقوة لمنافسة كل أنواع ألبسة النساء العصرية والحديثة والمستوردة، إذ تتباهى بها النساء في الحفلات والأعراس والمناسبات العائلية، بعد سنوات من الانكماش والتراجع وخطر الزوال، فالزائر لمدينة وهران، وبالضبط لعدد من أسواق المدينة المعروفة، على غرار حي المدينة الجديدة وشارع معطى محمد الحبيب وشارع عبد المؤمن، يشاهد انتشار محلات بيع البلوزة الوهرانية، باختلاف ألوانها وتصاميمها، والتي تجتمع كلها بوجود "التعميرة" وألوان باهية، والتي لا تزال رمز البلوزة الوهرانية، ومعها أشكال متداخلة ومتناسقة، تحولت عبر الأيام إلى مصدر اهتمام المصممين والخياطين الذين استمروا في خياطة وحياكة البلوزة بالمنطقة، كمحافظين على هذا الموروث المادي الذي يرفض الزوال، بالرغم من ما يتهددها من "تدخل صناعي" في قيمة البلوزة الوهرانية، ووجود أنواع مستورة من خارج البلاد تشكل منافسة للمصممين.

البلوزة الوهرانية من عبق التاريخ

بالحديث عن البلوزة الوهرانية، بعراقتها ومكوناتها وعمقها الضارب في تاريخ المنطقة، كان لنا لقاء مع الأستاذة خخاز الهوارية، محافظ التراث الثقافي، رئيسة مصلحة النشاطات والورشات البيداغوجية بالمتحف العمومي الوطني أحمد زبانة بوهران، داخل المتحف الذي خصص رواقا للبلوزة الوهرانية وأكسسواراتها، والتي كشفت بأن تاريخ البلوزة الوهرانية غير محدد بالضبط، وقد يعود لأواخر القرن السادس عشر بشكلها البسيط، فيما توجد قصة أخرى تتعلق بزيارة زوجة نابليون للمنطقة مع بداية الاستعمار الفرنسي للجزائر، وقد كانت ترتدي زيا خاصا أوحى للخياطات تصميم البلوزة في شكلها الأول، كما أن كلمة بلوزة قد ترجع في أصلها إلى كلمة "بلوزون" أو "لابلوز" بالفرنسية، وهو ما يجب البحث والتحقق منه من قبل المختصين. 

نوع "البلوزة" حسب المكانة الاجتماعية والمناسبات السعيدة أو الحزينة 

أبرزت االهوارية خخار، القيمة التاريخية للبلوزة الوهرانية كموروث ثقافي خاص يميز المنطقة ونساءها، وحتى تنوعه، حسب الفئات الاجتماعية ومراتبها، والتي كانت ترتديها النساء في المناسبات الاجتماعية والأعراس، وحتى في الجنائز، بوجود بلوزة خاصة تسمى بلوزة "الوقر"، وهي بلوزة خاصة خالية من الزينة، إلى جانب بلوزة خاصة بالبيت والمطبخ، تلبسها النساء خلال أشغال المنزل اليومية، فيما تعد بلوزة "الزعيم" الأشهر في وهران، وكان يتم خياطها من نوع خاص من القماش، خاصة باللون الوردي، وتطرز بنوع من الزينة يسمى "العدسة"، والتي قد يتطلب خياطتها بالكامل حوالي شهر، وهي بلوزة تختلف قيمتها حسب المكانة الاجتماعية للعائلات، إذ تغطيها في الغالب الزينة لتجعلها ثقيلة جدا وتتباهى بها النساء. 

"الفريملة".. "الحلحالي" أنواع  ترفض الزوال 

كما تعد "الجلطيطة"، وهي لباس خفيف من الصوف المنسوج، يلبس أسفل البلوزة، وتحمل نفس لون البلوزة من القطع الأساسية في لبسها، وتستخدم لمنع ظهور جسم المرأة، خاصة أن معظم قماش البلوزة من القماش الخفيف شبه الشفاف، كما يتم لبس "السروال"، وهو قطعة ثالثة تكون في الغالب مزخرفة أسفل الرجل، وبنفس لون البلوزة كميزة للحشمة وستر المرأة خلال الجلوس، وكانت العائلات الغنية والميسورة ترتدي أيضا البلوزة وفوقها نصف قميص يسمى "الفريملة"، مطرز بالفتلة والمجبود، وبعدة ألوان زينة بين فضية وذهبية وتوضع فوقها قطع من اللويزة الذهبي بالنسبة للعائلات الغنية.

فيما كانت العروس في الماضي ترتدي 7 أنواع من البلوزة، تقدمها "بلوزة التصديرة" أو "بلوزة الكرسي"، التي ترتديها العروس خلال جلوسها أمام المدعوين، وكانت في الماضي تقوم العروس أو والدتها بحياكة وخياطة هذه البلوزة، كما أن تسجل البلوزة تنوعها بوجود "بلوزة الحمام"، والتي غالبا ما تلبسها العرائس وتكون مرفقة بـ"البنيقة"، وهي عبارة عن قطة قماشية يكون لونها في الغالب ذهبيا أو فضيا، بها شرارشيف في الحواف، وتوضع فوق الرأس إلى جانب "القرقاب"، وهو حذاء مصنوع من الخشب البني، ويلبس داخل الحمام لتكتمل بذلك أصالة البلوزة بلواحقها من أكسسوارات وألبسة مرافقة.

كما تمكنت النساء الوهرانيات المبدعات من الخياطات والمختصات في خياطة البلوزة الوهرانية الجزائرية، من ابتكار ألوان خاصة ومميزة لا توجد بأي منطقة، وأطلقت عليها تسميات تجعل من البلوزة موروثا ثقافيا ماديا جزائريا بامتياز، ويعرف سكان وهران، إلى غاية اليوم، اللون "الحلحالي" و"الخوخي" و"لكحل"، وهي أقمشة ذات  ألوان باهية تستخدم في خياطة البلوزة، إلى جانب قماش "قطيفة الهوا".

وأكدت المتحدثة بأن البلوزة عرفت الكثير من العصرنة والإضافات، بسبب التأثر بمسلسلات التلفزيون، إذ أصبحت تطالب النساء بخياطة بلوزات بأسماء الفنانات، على غرار بلوزة "شريهان" التي اشتهرت في فترة معينة، كما ساهم ظهور القماش الجاهز في تنوع البلوزة ودخول ألوان جديدة وتصميمات، مع الحفاظ على المنظر العام للباس.

 


 

التكوين والترويج والعمل المنسق للحفاظ عليها

ترى الإعلامية والباحثة الأستاذة أمل ايزة، من جامعة وهران (2)، بأن عدة نتائج تحققت على أرض الواقع، منذ انطلاق الحملات الترويجية و اللقاءات مع المجتمع المدني والباحثين الأكاديميين والأساتذة والحرفيين والفنانين والإعلاميين منذ سنة 2020، بالتعاون مع مديرية الثقافة، بإشراف وزارة الثقافة والفنون، وكانت ايزة، المنسقة الإعلامية للمكتب السياحي لمدينة وهران، وقدمت مداخلتين، الأولى بالوزارة ضمت مدراء الثقافة لولايات الوطن حول "البلوزة الوهرانية من موروث ثقافي إلى منتوج مستدام"، قدمت من خلالها عدة اقتراحات.

أهمها إعادة النظر في ثمن البلوزة الباهظ، والعمل على تشجيع المصممين والخياطين لإيجاد تصميم يحافظ على شكل البلوزة المتوارث، يكون في متناول الجميع، مع توفير نوعية الأقمشة والمواد الأولية محليا بأسعار معقولة، كما كشفت ايزة، عن قلة المراجع والدراسات الخاصة باللباس التقليدي الجزائري والبلوزة الوهرانية ما يدعو إلى القيام بعملية جرد واسعة، لجمع القطع النادرة من البلوزة الوهرانية وضمها للمتحف العمومي الوطني "أحمد زبانة"، والتركيز على الاستدامة من خلال تكوين خياطات شابات وتلقينهن خياطة البلوزة الوهرانية، وبذلك نكون قد أسسنا مشاريع مربحة للماكثات بالبيت.

كما قامت الوزارة بتنظيم أيام وطنية للباس التقليدي الجزائري ضمن شهر التراث اللامادي، تحت شعار: "لباسي، ذاكرتي وثقافتي" من 10 أوت، إلى غاية الأسبوع الأول من شهر سبتمبر 2020، إلى جانب تفعيل مشروع الدمى وتوزيعه بمختلف محلات بيع المنتجات المحلية للصناعات التقليدية والحرف والمطارات.

كما برزت البلوزة بألعاب البحر الأبيض المتوسط الذي احتضنت فعالياته وهران، إلى جانب الألعاب العربية في الصيف الماضي، حيث ثم استقبال الوفود المشاركة باللباس التقليدي الجزائري، ومنهم البلوزة الوهرانية، كما قدمت مداخلة ثانية بالمركز التفسيري ذي الطابع المتحفي للباس الجزائري التقليدي والممارسات الشعبية، حملت عنوان: "اللباس التقليدي الجزائري ما بين التطور والإستدامة"، شهر أكتوبر 2020. وأكدت ايزة على ضرورة العمل على تنفيذ التوصيات التي رفعت سابقا، للاهتمام بالشق العلمي والأكاديمي المتعلق بالموروث الثقافي اللامادي.

وطرح مواضيع بحث متعلقة بالحفاظ على الموروث الثقافي اللامادي لوهران، واقتراح مواضيع أيام دراسية وملتقيات وطنية ودولية لها علاقة بالحفاظ على الموروث الثقافي اللامادي للبلوزة، ونشر الوعي في أوساط المواطنين من خلال الاستعانة بمختلف وسائل الإعلام وإمضاء اتفاقيات مع جامعات ومنظمات دولية لها باع في مجال التراث الثقافي، لتبادل الخبرات والاستفادة مما حققوه، مع تفعيل قوانين بمشاركة حقوقيين وجامعيين مختصين في التراث الثقافي، لحماية موروثنا من النهب ومحاولات تحويله وإنشاء مخابر بحث تضم مختلف الفئات المهتمة بالجانب الثقافي، وكذا جمع كل أطروحات ودراسات الطلبة المتعلقة بالموروث الثقافي وجعلها في موقع إلكتروني يمكن الاطلاع عليها، وإنشاء لجنة محلية لجرد موروث وهران، وتنصيب فريق تنسيق مشترك يجمع الحرفيين وبائعي المواد الأولية والهيئات الإدارية، وتنظيم عروض أزياء متخصصة مع نشر روبورتاجات وتحقيقات وإنشاء لجنة محلية خاصة بجرد كل ما هو موروث مادي ولامادي لوهران،  وفريق مصالح مشتركة يجمع ما بين الحرفيين وبائعي المواد الأولية والهيئات الإدارية المختصة.

 


 

طلب كبير على تعلم الحرفة واعتراف دولي بالبلوزة

عن التصاميم وعودة البلوزة إلى مكانتها، كان لنا لقاء مع الفنانة ومصممة الأزياء بوسعيد أمال، التي تشتغل في نفس الوقت أستاذة خياطة ومؤطرة في خياطة البلوزة منذ سنة 1998، والتي نالت جائزة ملكة البلوزة الوهرانية بجمهورية مصر، وأحسن مصممة أزياء لسنة 2022 من قناة "اي بي سي" اللبنانية. أكدت أمال بأن البلوزة تشهد إقبالا كبيرا خلال السنتين الأخيرتين، من قبل الزبائن والحرفيين الذين يريدون تعلم الخياطة، من الجنسين، وحتى بعض الأجانب من جنسيات إفريقية وسورية، في ظل الطلب عليها عبر ربوع الوطن ومن خارج الجزائر.

كما أكدت المتحدثة، بأن أصالة البلوزة الوهرانية مكنتها من الصمود كل هذا الزمن، رغم التطور في مجال الخياطة، وقد مكنت عروض الأزياء من الترويج لها كموروث ثقافي مادي بالمنطقة، وكشفت أمال بوسعيد، عن تخرج ما معدله 40 حرفيا سنويا في خياطة البلوزة الوهرانية، والتي يتطلب التكوين في تعلمها ما بين 3 إلى 4 أشهر، وأضافت المصممة أمال بأنها خلال التكوين، تحرص على تقديم البلوزة الوهرانية الحقيقية بأصالتها ومكوناتها، غير أن الطلب والتطور عوامل تدفع إلى تدخل في تصميمها وفق ذوق الزبون.

وأوضحت المتحدثة بأن البلوزة في الأصل مكونة من صدر، "جلل"، أكمام و«جلطيطة"، غير أن بعض النساء يطالبن بتصاميم تتوافق والسهرات الخاصة بالمناسبات، ما أفقدها رونقها، حيث كانت البلوزة القديمة تظهر أنوثة المرأة وقوامها بشكل يبرز عمق الثقافة والتصميم.

 


 

الهند تنافس الحرفيين ... والبلوزة صامدة

كما كشفت المصممة بوسعيد، بأن ما نعيشه من تطور دفع بالتجارة إلى نسخ مكونات البلوزة الوهرانية، من خلال استيرادها شبه مكتملة من الهند، حيث يقوم التجار بأخذ مكونات البلوزة وصناعتها في دولة الهند، لتأتي جاهزة على شكل قطع من صدر وأكمام وقماش جاهز ومطروز، وما على الخياطين سوى تركيبه وخياطته في غياب اللمسة الخاصة بالحرفية، وعدم وجود تدخل للحرفيين، وهو ما يفقدها مكانتها، كما أبرزت المتحدثة تعلق النساء بالبلوزة، رغم ذلك، من خلال قيام عديد النساء والفتيات بحلب بلوزة قديمة وإعادة بعثها بوضع لمسات عليها للزينة، حيث يتم يوميا استقبال واستلام بلوزات قديمة لإعادة تصميمها، وهو ما يساهم في بقائها صامدة.

وبخصوص ملف حفظ البلوزة كتراث مادي جزائري لدى "اليونيسكو"، كشفت المصممة بأنها كانت من المشاركين في إعداد الملف بتجربتها وتصاميمها، التي قدمت أمام المختصين بكل ما تحمله البلوزة من عراقة و تفاصيل.