تغيّرات مزاج وضعف طاقة لا تجد تفسيرا

الاكتئاب الموسمي.. حالة نفسية يُستخفّ بها كلَّ خريف

الاكتئاب الموسمي.. حالة نفسية يُستخفّ بها كلَّ خريف
  • 149
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

يتسلّل الاكتئاب الموسمي كحالة نفسية جدية مع قدوم فصل الخريف. يحمل في طياته تغيرات عميقة، تؤثّر على حالة الكثيرين النفسية دون أن يكون مجرّد تقلّب مزاجي عابر. حيث يختبر المصابون به تغيّرات واضحة في المزاج، والطاقة، لكن يصعب غالبا تفسيرها. ويعيشها البعض غالبا بلا ضرورة الاستشارة حولها، أو الاستفسار عن واقعها، لتبقى أسباب هذه الحالة وأبعادها الحقيقية، تحتاج إلى توضيح معمّق. وفي هذا المقال استُعرضت هذه الظاهرة النفسية، التي تبدو بسيطة، لكنّها تحمل وراءها قصة معقّدة، تؤثر على حياة كثيرين مع عودة كلّ فصل خريف.

يحلّ الخريف بخطاه الهادئة، ويحمل معه تغيّرات في الطبيعة تلقي بظلالها على النفس البشرية. فتبدأ الأوراق بالسقوط، وتقلّ ساعات الضوء. وتبدأ درجات الحرارة في الانخفاض تدريجيا. لكن وراء هذا الجمال الخريفي الهادئ يختبئ شعور غامض يسيطر على كثيرين؛ شعور بالكآبة، والفراغ، يفقدون فيه حيويتهم ونشاطهم؛ وكأنّ النفس تستسلم لتيار خفي من الحزن. هذا الشعور هو ما يُعرف بـ«الاكتئاب الموسمي" ؛ حالة نفسية جادة، تصيب شريحة كبيرة من الناس في هذا الفصل تحديدا. وتستدعي منا فهماً عميقاً، ووعياً دقيقاً بطبيعتها، وأسبابها.

قال الطبيب النفسي د. سامي الحداد في حديثه عن هذه الحالة: "الاكتئاب الموسمي ليس مجرد تقلب مزاجي عابر أو شعور وقتي بالحزن، إنّه اضطراب نفسي، مرتبط بتغيّرات الضوء، والفصول. يُحدث تغييرات حيوية ونفسية في جسم الإنسان. أرى أنّ مفتاح فهم هذا الاكتئاب يكمن في العلاقة المعقّدة بين البيئة الخارجية ووظائف الدماغ".

ويُفسّر الدكتور أنّ السبب الرئيس وراء ظهور الاكتئاب الموسمي، هو النقص التدريجي في ضوء الشمس مع دخول الخريف؛ ما يؤثر على إيقاع الجسم البيولوجي أو ما يُعرف بـ«الساعة البيولوجية الداخلية". "عندما تقلّ ساعات النهار يحدث خلل في إنتاج هرمون الميلاتونين المسؤول عن تنظيم النوم، ويزيد إفراز الميلاتونين؛ ما يؤدي إلى شعور بالنعاس المستمر، والكسل. كذلك ينخفض مستوى السيروتونين، وهو ناقل عصبي، يلعب دوراً محورياً في تنظيم المزاج. هذا النقص يفتح الباب واسعاً أمام الكآبة".

الأعراض التي يصفها الدكتور الحداد ليست بسيطة أو سطحية، بل تتّسم بعمق، وتداخل نفسي وجسدي؛ يقول: "يصاحب الاكتئاب الموسمي شعور عميق بالحزن، وفقدان الاهتمام بالأشياء التي كانت تبهج الشخص سابقاً، مع زيادة أو نقصان في الشهية، واضطرابات في النوم بين الأرق، وكثرة النوم، وشعور بالإرهاق، والتعب المزمن، وأحياناً حتى صعوبة في التركيز واتخاذ القرارات. هذه الأعراض قد تتطور لتؤثر على الحياة اليومية، والعلاقات الاجتماعية".

أمّا الحالات الأكثر عرضة للاكتئاب الموسمي فهي النساء بنسبة أكبر، والأشخاص الذين يعيشون في مناطق ذات فصول متباينة؛ حيث يقل الضوء بشكل ملحوظ في الخريف والشتاء. ويشير الدكتور إلى أن هناك تداخلًا بين العوامل الوراثية والشخصية؛ إذ يلعب الاستعداد النفسي دورا كبيرا في مدى تأثر الفرد بهذه الحالة.

وللوقاية والعلاج، يوضح الطبيب، هناك عدة استراتيجيات فعالة: "العلاج بالضوء هو من أكثر الطرق نجاحاً؛ حيث يُعرَّض المريض لضوء قويّ شبيه بضوء الشمس؛ ما يعيد توازن الناقلات العصبية. بالإضافة إلى ذلك، الدعم النفسي من خلال العلاج المعرفي السلوكي، يساعد في تغيير أنماط التفكير السلبية التي قد تترافق مع الاكتئاب. ومن المهم أيضاً ممارسة الرياضة بانتظام؛ لأنّها تعزّز إفراز هرمونات السعادة، وتحسّن المزاج".

وفي ختام حديثه أكد الدكتور الحداد أنّ الاعتراف بالحالة وفهمها هو الخطوة الأولى نحو مواجهة هذا الظلام النفسي الخريفي؛ "لا يمكننا تجاهل تأثير الفصول على صحتنا النفسية؛ لهذا يجب أن نكون يقظين تجاه أعراض الاكتئاب الموسمي، وأن نتعامل معها بجدية؛ فالصحة النفسية تستحق اهتمامنا الكامل كما الجسدية".

وينقلب الخريف من مجرّد فصل يحمل معه جمال الطبيعة المتغيّرة، إلى فصل يتطلّب منا وعياً خاصاً بأنفسنا، بأن نمدّ أيدينا نحو النور سواء كان ضوء الشمس، أو ضوء المعرفة والدعم. ففي قلب هذا الموسم يكمن درس عميق عن هشاشة الإنسان، وعن كيف يمكن الطبيعة.