يصفها الباحثون ببوصلة الروح وكنوز الهوية الجزائرية
الأمثال الشعبية لغة الأجداد وحكمة الحياة

- 162

في الزوايا الهادئة للقرى الجزائرية، وفي بيوت الطين العتيقة، كما في الأحياء الشعبية للمدن، يجلس كبار السن كحرّاس صامتين لذاكرة أمة بأكملها، إنّهم ليسوا فقط أمهات وآباء، أو جدات وأجداد، بل هم رواة، مؤرّخون شفويون، ومكتبات بشرية تنبض بالحكمة والتجربة، مشكّلين النسيج الثقافي من خليط عربي وأمازيغي وإسلامي ومتوسطي، إذ لعب كبار السن، عبر الأجيال، دورا محوريا في نقل التراث الشفهي من جيل إلى آخر. لم يكن كبار السن يوما مجرّد مستهلكين للثقافة، بل ناقلين لها أيضا، محافظين على أسرارها، من خلال القصص، الأمثال، الحكايات، الحكم والأغاني الشعبية التي ترافق مواسم الحصاد، الأعراس، ومختلف الولائم العائلية.
ذات مساء صيفي في إحدى قرى الأوراس، جلست الحاجة "ميمونة" الجدة التي تجاوزت التسعين تحكي لحفيدتها عن "لالة فاطمة نسومر"، تلك البطلة المقاومة التي تحدّت الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر، لم تكن الحاجة تقرأ من كتاب، ولم تتعلّم في مدرسة، لكنّها كانت تنقل التاريخ بلغة مغموسة في العاطفة، مشبّعة بالإيمان، ومحكمة بالتفاصيل الدقيقة التي لا تجدها في كتب التاريخ الجامدة.
في قرية صغيرة، بمدينة من شرق الجزائر تجلس الحاجة "مسعودة" تحت شجرة تين قديمة، وتقصّ على أحفادها حكايات "الوحش الغدار" و«العجوز الحكيمة". لم تتعلّم لا القراءة ولا الكتابة، لكن ذاكرتها تحفظ عشرات الحكايات الشعبية التي تناقلتها النساء جيلا بعد جيل.
مثل الحاجة ميمونة، ومسعودة آلاف الجدات في الجزائر، يخبرن أحفادهن قصص "الغولة"، "بوشكارة"، و«السلاطين"، وغيرها فيمزجن بين الخيال والتاريخ، بين الخرافة والحقيقة، ليعلمن أطفالهن قيم الشجاعة، الصبر، والتضامن. تلك القصص لم تكن مجرّد روايات، بل بعضها تعدّ حكما ذات عمق وبعد اجتماعي تحمل معاني في طياتها وعبر خلاصات لا توجد إلاّ لدى أصحاب الحكمة منهم. في زوايا البيوت العتيقة، حيث تهدأ الحياة بعد صخب الأيام، يجلس كبار السن، بهدوئهم المعهود، كأنّهم أوتاد الزمن التي تثبت الماضي في حاضر سريع التغيّر، حينها لا يعتبر المسنّ مجرّد فرد تقدّم به العمر، بل هو حامل لذاكرة جماعية، وناقل لتراث شفهي يكاد يندثر لولا وجودهم.
كبار السنّ يلعبون دورا محوريا
عن هذا الموضوع، كان لـ«المساء" حديث مع موسى عبد الغفور بركاني، أستاذ في التاريخ ومحافظ التراث الشعبي بأحد المتاحف بالعاصمة، الذي أكد قائلا " في المجتمعات التقليدية الجزائرية، كان ولا يزال كبار السن يلعبون دورا محوريا في الحفاظ على التراث الشفهي، بما في ذلك القصص الشعبية، والأمثال، والحكم، والأغاني التراثية، وحتى النكت القديمة، هي كنوز لا تكتب في الكتب، بل تحفظ في القلوب والعقول، وتروى على مهل، بين جلسات السمر أو خلال تعليم الأحفاد عن الحياة، تلك الكنوز لن تكون في جيل الغد، لأنّ جيل اليوم يفتقد تلك الحكمة، وذلك العمق في التفكير ولم يعش أحداثا خالية من التكنولوجيات وغنية بالعلاقات الاسرية والمجتمعية ثقافة فريدة، ترسّخت لدى هؤلاء مع فقدانهم سوف نفتقد تماما لتلك الذاكرة مع مرّ السنوات لنصل لمرحلة لن تكون أبدا ذات المعنى العميق الذي كانت عليه عقول أجدادنا".
تلك الحكايات لم تكن مجرّد تسلية للأطفال، يضيف الأستاذ، بل كانت وسيلة لتعليم القيم، الصبر، الذكاء، والشجاعة، فكلّ قصة تحمل درسا، وكلّ مثل يقال في وقته المناسب، ليعبّر عن حالة أو ينصح بطريقة غير مباشرة، حكم متناسقة في لغتها بعضها تعدّ كالشعر حاملة للقافية بلغة سلسة مزيج بين الفصحى والدارجة، منها الكلمات التي اختفت اليوم تماما من قاموسنا.
في الجنوب الجزائري، يقول الأستاذ، على سبيل المثال، لا تزال الجدات تردّدن أمثالا مثل "اللي ما عندو كبير يشريلو كبير"، تعبيرا عن أهمية وجود من هم أكبر سنا لتوجيه الحياة، و«الكلام إذا خرج من القلب يدخل للقلب، وإذا خرج من اللسان ما يتعدى الوذنين"، وهي حكمة تؤكّد على قيمة الصدق في القول، في تلمسان مثلا من الأقوال الشهيرة أيضا "داق السما على القوبع"، والقوبع هو الطير شهير ببقائه في الأرض وليس كثير الطيران، رغم أنّ لديه جناحين، لذلك يقال "ذاقت السماء عليه وكأنها لم تكفيه للطيران"، وذلك تعبيرا عن الشخص الذي لا يجلس في مكان لائق بل يبحث عن أيّ مكان للبقاء فيه حتى وإن كان غير مرتاح فيه.
أما في منطقة القبائل، فتحضر الأمثال بالأمازيغية في المجالس الأسرية، ولكلّ منطقة حكمها وتعابيرها، والأمثال الجزائرية التي تتناقلها الجدات، يضيف بركاني، تشكّل مرآة صادقة لثقافة المجتمع، وهي ملخّص لقرون من التجربة والعيش المشترك، تختزل الواقع في جمل قصيرة لكنّها لاذعة، صادقة، وأحيانا ساخرة.
ولعلّ من أجمل ما قيل "اللي فاتك بليلة فاتك بحيلة"، تذكيرا بأنّ التجربة لا تقاس بالزمن فقط بل بما تحمله من دروس، لكن، في ظلّ التحوّلات التكنولوجية والاجتماعية، يقول بركاني، أصبح هذا التراث مهدّدا، ولم تعد جلسات الحكايات كما كانت، ولم يعد للأمثال وقعها السابق وسط ضجيج الشاشات واللهجات المستوردة من المسلسلات، فكثير من الشباب اليوم لا يفهمون هذه الأمثال، ولا يحفظون القصص التي شكلت وعي أجيال قبلهم.
تلك الأمثال ليست مجرد كلمات تقال بعفوية، يشدّد بركاني، بل هي تركيبة لغوية محملة بالحكمة والتجربة، تحمل في طياتها فهما عميقا للحياة، وصورة واضحة لمجتمعٍ كان يؤمن بالتجربة أكثر من النظرية، ويقدّم الرمز على المباشر، و«العبرة" على "التحليل"، فتلك الأحكام، يضيف، تستخدم لتربية الأبناء، لحلّ الخلافات، أو حتى لوصف المشاعر، فهي لغة شعبية فلسفية بامتياز، تشرح موقفا كاملا في جملة واحدة، وتعكس القيم الأساسية للمجتمع الجزائري، كالاحترام، الصبر، الحذر، الشجاعة، والتضامن وغيرها..
فلا لا تقاس قيمة كبار السن فقط بعدد السنين، يؤكّد الباحث، بل بما تحمله من قصص، حكم وأمثال تشهد على أزمنة مضت، وتضيئ دروب الحاضر، ولا سيما الجدات والأجداد، فهم ليسوا مجرّد أفراد بلغوا عتبة العمر المتأخّر، بل هم خزائن بشرية حية للتراث الشفهي، ومرآة صافية تعكس هوية ثقافية ضاربة في عمق الزمن، والمفارقة العجيبة اليوم أنّ هذا التراث الشفهي الذي بدأ يتلاشى، أصبح اليوم محطّ اهتمام الباحثين والمهتمين بالتراث، فهناك من يسجّل الأغاني القديمة، والأمثال، والحكايات، ويصنّفها كـ«تراث غير مادي" ينبغي توثيقه.