"الترقيد المبكّر للزيتون" تحسّبا لشهر رمضان

استعداد اجتماعي واقتصادي ونافذة رزق للشباب

استعداد اجتماعي واقتصادي ونافذة رزق للشباب
  • 141
سميرة عوام سميرة عوام

مع بداية فصل الخريف تشهد مدينة عنابة، حراكا موسميا مميزا يتجدّد كلّ عام. حيث تتّجه أنظار العائلات خاصة النساء، إلى الأسواق الشعبية لاقتناء الزيتون الطازج؛ تمهيدا لتصبيره في البيوت. هذه العادة الراسخة التي تربط بين طقوس الماضي وضرورات الحاضر، لم تعد تقتصر على الجانب الغذائي فحسب، بل أصبحت تعكس بُعدا اجتماعيا واقتصاديا أعمق، يتجلى في استغلال هذا الموسم من طرف العديد من الشباب العاطلين عن العمل، كمصدر دخل مؤقت وموسمي، يقيهم شبح البطالة ولو لفترة قصيرة.

استعدادات رمضانية بحكمة اقتصادية

تُقبل نساء عنابة من مختلف الأحياء، على "ترقيد الزيتون" بشكل مبكّر انطلاقا من وعيهن بأنّ الأسعار سترتفع حتما مع اقتراب شهر رمضان. فمع دخول موسم جني الزيتون يتراوح سعر الكيلوغرام الواحد ما بين 200 و250 دينار. لكن مع تزايد الطلب في الأشهر المقبلة، قد يتضاعف هذا الرقم، خاصة للزيتون المصبّر الجاهز والمعبأ. 

ومن هنا يصبح "الترقيد" (التصبير) المنزلي وسيلة لتقليل التكاليف، والحفاظ على الجودة، وضمان توافر هذا المكوّن الأساسي على موائد الإفطار الرمضانية. وترى السيدة خديجة من حي "لاكولون"، أنّ هذه العادة تتعدى كونها مجرّد استعداد مادي، بل تعكس أيضا، ذكاء التدبير الأسري في مواجهة تقلبات السوق، قائلة: "نُصبّر الزيتون في بيوتنا؛ لأنّنا نثق في ما نصنع، ولأنّنا نُدرك أنّ الغلاء قادم لا محالة" .

الشباب بين الحاجة والمبادرة

مع كل موسم زيتون تظهر على الساحة فئة من الشباب البطّالين الذين يجدون في هذه الفترة فرصة للعمل والكسب ولو بشكل مؤقت. ففي أسواق "الحطاب" و«مارشي فرنسيس" و«سيدي سالم" ينتشر هؤلاء الشباب حاملين صناديق الزيتون، عارضين خدماتهم في بيع الزيتون، أو تنظيفه، أو كسره، وحتى تقديم خدمة النقل والتوصيل للنساء اللواتي يشترين كميات كبيرة. 

ويقول محمد، شاب في العشرينات من عمره، يقف في سوق "الحطاب" منذ الصباح الباكر، "أنا لا أملك عملًا دائما، لكني في هذا الموسم أستطيع أن أجني بعض المال من بيع الزيتون، أو حتى من كسره، وغسله للزبائن. هذا الرزق المؤقّت أفضل من الجلوس دون جدوى". هذه المبادرات الفردية وإن كانت بسيطة، إلاّ أنّها تُظهر رغبة الشباب في كسر حلقة البطالة، واستثمار الفرص الموسمية المتاحة حتى وإن كانت قصيرة الأمد. وهي صورة تعكس الديناميكية الاجتماعية الكامنة في المجتمعات المحلية، التي كثيرا ما تُظهر مرونة عالية في مواجهة الأزمات.

فضاء للتضامن والتوارث.. الزيتون كرمز اجتماعي

لا يمكن الحديث عن "ترقيد الزيتون" دون التطرّق لجانبه الاجتماعي العميق؛ إذ يتحوّل هذا النشاط إلى مناسبة جماعية، تُعيد إحياء العلاقات بين النساء سواء داخل الأسرة أو الحي. فترى الجارات يجتمعن لتبادل وصفات الترقيد، وتقديم النصائح، وتذوّق نتائج المواسم السابقة، بل قد يتعاونّ في شراء الزيتون بكميات كبيرة لتقاسم التكلفة. 

وفي هذا الفضاء يُعاد إنتاج العلاقات الاجتماعية القديمة، التي تقوم على التآزر والتكافل بعيدا عن الفردانية، التي باتت تميز المدن الحديثة. وتقول السيدة زهرة من حي بوزراد حسين: "في الماضي كنا نرقّد الزيتون جماعة، كلّ واحدة تجلب ما عندها، ونتعاون في غسله وتقطيعه. كانت فرصة لتعلّم أشياء جديدة، والضحك، ومشاركة القصص" .

رمضان.. البعد الديني والثقافي لعادة الترقيد

يرتبط الزيتون المرقّد في المخيّلة الجماعية الجزائرية، بشهر رمضان بشكل خاص؛ حيث يُعد من المكوّنات الأساسية التي تحضَّر في وجبة الإفطار إلى جانب الشوربة، والسلطة، والمقبلات. الزيتون لا يُضفي، فقط، نكهة خاصة على الطعام، بل يرمز إلى البساطة، والبركة، خاصة أنّه ذُكر في القرآن الكريم؛ ما يمنحه بعدا روحيا يتجاوز البُعد الغذائي.

ولهذا السبب فإنّ الترقيد المبكّر لا يمثل مجرّد استعداد عملي، بل استعداد نفسي وروحي أيضا لاستقبال شهر الصيام، في طمأنينة واستقرار غذائي دون الاضطرار إلى اللجوء للأسواق في اللحظات الأخيرة. وفي نهاية المطاف، فإنّ موسم "ترقيد الزيتون" في عنابة، ليس مجرّد تقليد غذائي موسمي، بل هو مناسبة يتقاطع فيها التراث مع التحديات المعاصرة. وتلتقي فيه الحكمة الشعبية بالوعي الاقتصادي. ويجد فيه الشباب نافذة مؤقّتة للرزق الكريم.

هو مشهد مصغّر من الحياة الجزائرية اليومية؛ حيث تُقاوم النساء الغلاء بالتدبير. ويُقاوم الشباب البطالة بالمبادرة. وتُحافظ الأسر على روابطها من خلال طقوس بسيطة لكنها غنية بالمعاني. «ترقيد الزيتون" ليس فقط حفظا لحبات خضراء في أوانٍ زجاجية، بل هو حفظ لذاكرة جماعية، ولذوق متوارَث، ولأسلوب حياة لايزال يصنع من التفاصيل الصغيرة، حكاية كبيرة عن الكرامة، والابتكار الاجتماعي.