الماشطة العنابية
أنامل تصوغ الفرح وتوقظ ذاكرة الأعراس العتيقة

- 141

تُحيي "الماشطة" في عنابة، ذاكرة الأعراس القديمة بطقوسها وألوانها وروائحها، فتتحول بفضل أناملها، إلى شاهدة على أصالة المكان وعمق العادات التي لا تزال تنبض في البيوت والأحياء العتيقة. ليست مجرد امرأة تزين العروس وتصفف شعرها، بل فنانة تحمل تراثًا ضاربًا في الجذور، وذاكرة شعبية تحفظ تفاصيل دقيقة من ماضي المدينة. فوجودها في أي بيت عنابي عند حلول "الساعة الصفر" للزفاف، يعني أن الفرح قد بدأ، وأن العروس على موعد مع لحظة لا تُنسى.
تجلس الماشطة في صدر الغرفة، محاطة بأهازيج النسوة ورائحة البخور المنبعثة من مجامر النحاس، فيما يختلط صوت "الدربوكة" وأغاني الفرح بأصوات الضحكات والتهاني. تبدأ أولى لمساتها بترتيب شعر العروس، لتضع فوقه "الشوشنة" بكل دقة، ثم تُزين جيد العروس بـ"السخاب"، ذي الرائحة الزكية الذي تتوارثه النساء جيلاً بعد جيل، كرمز للبركة والعفة والحظ الطيب. وفي معصمها ويديها، لا تنسى الماشطة أن ترسم بخطوط "الحرقوس" السوداء، نقوشًا بديعة تزيد اليدين إشراقًا، وتمنحهما مسحة أسطورية من الجمال.
كل تفصيل عند الماشطة له دلالة ومعنى. فإذا ارتدت العروس "قندورة الفتلة" المطرزة بخيوط الذهب والفضة، صففت شعرها بطريقة تليق بفخامة هذا اللباس التقليدي العريق، لتكتمل صورة العروس الملكية. وإذا ارتدت اللباس الخفيف العصري، تكيفت مع ذوقها وجعلت التسريحة، تنسجم مع البساطة والحداثة. هكذا، تتحول الماشطة إلى فنانة لا تُعيد نفسها مرتين، بل تبدع في كل مرة لوحة جديدة. لكن دور الماشطة لا يقتصر على التزيين. فهي تُرافق العروس طيلة اليوم، تُهيئها نفسيًا وتُهدئ من توترها، وتقدمها في العرس بأبهى صورة. ولأن الأعراس العنابية تختلف في أجوائها، بين من يفضل أجواء "الديسك جوكي" الحديثة، ومن يحيي الحفل بالفقيرات والأهازيج الدينية، أو بالزرنة والقصبة، التي تعيد صخب الأعراس الشعبية القديمة، فإن الماشطة تظل الرابط الوحيد بين كل هذه العوالم. فهي تجيد التأقلم مع جميع أشكال الاحتفال، وتظل دائمًا جزءًا من الصورة مهما تغير الزمن.
وفي أحياء عنابة العتيقة، من "سيدي سالم" المطل على البحر، إلى "برمة الغاز" و"بلاص دارم"، مرورًا بـ"لاكلون" و"لوريروز" وغيرها من الأزقة التي تحفظ أسرار المدينة، تبقى الماشطة أيقونة لا تغيب. تتنقل بخفة من بيت إلى آخر، حاملة صندوق أدواتها وكأنها تحمل صندوق أسرار، بداخله المشط، والمرايا الصغيرة، وأمشاط العاج، وعلب الحناء، وزجاجات العطور التقليدية، والأكسسورات، وكلما دخلت بيتًا، دخل معها الفرح، ومعها تبدأ النسوة في ترديد الأغاني التي تصف جمال العروس وتبارك زواجها.
ولأن العرس في عنابة ليس مجرد ليلة، بل سلسلة من الطقوس تمتد أيامًا، فإن الماشطة حاضرة في كل مرحلة. فهي التي تزين العروس يوم "الحمّام"، حين ترافقها النسوة بالغناء والزغاريد، وهي التي تحضر ليلة الحناء، لتزيّن يديها وأصابعها بالنقوش، ثم تعود ليلة الزفاف لتضع اللمسات الأخيرة على طلتها. وكل مرة، تُبدع من جديد لتمنح الفرح طابعًا مختلفًا. إن حضور الماشطة في الذاكرة الجماعية للعنابيات، ليس مجرد تقليد اجتماعي، بل هو شكل من أشكال الحفاظ على الهوية. فهي تحفظ طقوسًا وممارسات قديمة، تعكس رؤية المرأة للجمال والفرح، وتعيد للأحياء الشعبية دفئها، وتجعل من العرس لحظة جامعة للعائلة والجيران والأصدقاء.
في بيوت عنابة القديمة، حيث الجدران البيضاء والشرفات المزخرفة والطرقات الضيقة، يظل صوت الزغاريد الممزوجة بأهازيج الفقيرات والزرنة والقصبة مرتبطًا بصورة الماشطة. فهي التي تُجهّز العروس، وتزينها كما يليق ببنت المدينة، وتُقدّمها للناس في كامل أبهتها. إنها ليست مجرد مهنة عابرة، بل إرث نسائي خالد، يُعطي للأعراس العنابية سحرها الخاص وملامحها التي لا تُشبه أي مكان آخر. الماشطة، إذن، ليست مجرد أنامل تزيّن، بل ذاكرة حيّة تختزن قصص أجيال من النساء. هي التي تُبقي "أغراس" عنابة نابضة بالفرح، وتمنح لكل عروس يقينًا بأنها على خطى الجدات، وأن جمالها ليس مجرد زينة عابرة، بل حكاية متواصلة بين الماضي والحاضر.