حيرة في الاختيار وشغف للتجربة

أطباق وأذواق متنوعة من حبات القمح والشعير

أطباق وأذواق متنوعة من حبات القمح والشعير
  • القراءات: 5274
 أحلام محي الدين أحلام محي الدين

لماذا نعشق أكلات الأعراس؟ ولماذا نتسمر أمام رائحة الكسكسي المعبق بالدهان والمرق الأبيض أو الأحمر باللحم والخضر؟ ولماذا يشدنا الحنين لتناول البركوكس أو «العيش» أيام البرد القارس بنهم..؟ وكيف استطاعت الجدات المحافظة على هذا التنوع الغذائي الذي بات يطبع يومياتنا؟ أفراحنا ومناسباتنا السعيدة التي يتقاسمها القمح بنوعيه اللين والصلب والشعير، التي تتحول إلى كسكسي و«رشتة» ومعكرونة و«بركوكس»، وكذا «الشخشوخة» و«التريدة» التي تسيل اللعاب، وتحفظ أجمل الذكريات في الذاكرة الفردية والجماعية. إنها قصة الحبوب التي تحمل حكاية جهد الفلاحين، وإبداع سواعد نسوية تبحث عن سبل إسعاد القريب، وضيافة البعيد وهي شيمة الكرم الجزائري.

هو الانطباع الذي عاشه كل من تذوق من الأطباق التقليدية التي عكفت على إعدادها وتفننت فيها نساء الجزائر المشاركات في الطبعة الخامسة لإبداعات المرأة، حيث أصبح فضاء المعهد العالي للموسيقى محفلا وطنيا جمع الذكريات السعيدة لأمسيات الضيافة الجزائرية في الأعراس، وحفلات الختان، وعودة الغائب والحجيج من البقاع، وكذا غذاء رجال الثورة الذي كانت تحرص النساء على تحضيره بعد أيام من الجوع، حيث حضرت هناك البساطة والفخامة لتروي على المباشر حكاية مطبخ عريق عكفت سيداته مند الأزل على التأقلم مع الظروف المناخية، والحالة الاقتصادية وطرق تعزيز الروابط الأسرية، مترجمة الكرم الجزائري في كل منطقة، حيث زينت الموائد بمختلف أنواع وألوان الخضر وكذا البقول الجافة. وعرضت المأكولات الشهية مالحة وحلوة وجامعة بين الذوقين في أوان فخارية وقصعات خشبية تظهر مدى التوافق بين كل ما تنتجه الطبيعة من عناصر، وكيف أبدعت المرأة الجزائرية فيها لضمان الشهية للمقبل على الصحن وتناول ما فيه بشغف، فأكثر النساء الجزائريات يتساءلن عن سبب عدم إكمال الشخص لما في صحنه لحرصهن على رضاه.

تنوع حقيقي وبانوراما ساحرة، وروائح زكية فاحت من الموائد المنصوبة. فرائحة اللحم والدجاج و«العصبان»، ومرق الجمبري وشيء من رائحة الكسكسي المدهون بالزبدة والسمن، والدهان، وعطور كثيرة شهية كثيرة تسيل اللعاب، كانت تدغدع الأنوف وتغازل البطون التي زادتها رائحة العسل الصافي حيرة، إلى جانب طريقة العرض المغرية لكل الأطباق، فإن طريقة تقطيع الخضر، وتزيين قطع اللحم في الصحون والجفنات التي بدت فيها القطع مرصوصة كفسيفساء في دقة متناهية من التناسق، سببت الحيرة لمشاهدها وجعلته يفكر ألف مرة فيما سيطبخه لضيوفه في المناسبات والأعياد، أو ما ستعده المرأة لعائلتها الصغيرة أو الكبيرة خلال عطلة نهاية الأسبوع، خاصة أن تحضير طبق الكسكسي الشهي ميزة يتقاسمها الجزائريون يوم الجمعة... ذلك التنسيق جعل حجم الحيرة يتفاقم والرغبة في طبخ كل الأنواع التي جادت بها الموائد الكبيرة التي نصبت تكبر بعد أن تغازل النكهات اللسان، فتحتار الغدد بين الحلو والمالح واللاذع والبنين، كيف لا وكل نوع من «الجفنات» على اختلاف أحجامها وأنواعها، كانت تعرض الزخم الإبداعي الذي تزخر به بلادنا، ففي كل شبر حكاية وذوق يأسرك، حسب خاصية المكان وما تجود به الطبيعة، فسبحان من أبدع في خلق الأشكال والألوان المختلفة من الخضر وأنواع اللحوم البرية والبحرية، فقد كان المعرض فرصة لاكتشاف ذوق «الكابوية» الخضراء الفاتحة ذات المذاق الحلو وهي التي يحضر بها الكسكسي الأغواطي، والتي شاهدتها شخصيا لأول مرة في حياتي، كما تدخل في تحضير «الطبق الملك» كما يلقب في المنطقة، وحول طريقة تحضيره، قالت السيدة فايزة مخنت، مديرة مصلحة نشاطات بالجامعة: «المائدة الأغواطية لا يمكن أبدا أن تتخلى عن الكسكسي، فكل من يدخل بوابتها يشم عطره الزكي ويتناول منه، فميزته أن نكهته تجمع بين توابل خاصة منها؛ البسباس، و«شيبة الشيخ» وهي توابل عطرية تعطيه رائحته المميزة، وما يطبع ذوقه؛ «الكابوية» في المرق، وهي من ثمار منطقة الأغواط. وتقول سنوسي ليلى التي حضرت الطعام؛ «هو خاص بالعروس والعريس، فبالنسبة للفتاة تستهلكها في فطور الصباح، أما العريس فيستعملها خصيصا للعشاء ويجتمع حوله القريب والبعيد». وتضيف محدثتنا قائلة؛ «شاركنا أيضا بالمردود المحضر من الأعشاب الطبيعية، منها عروق الحلبة وأعشاب أخرى وسقيناه بمرق من الفول اليابس والحمص والطماطم اليابسة والهرماس».

أما الآنسة دليلة لوكا من غرداية، فشاركت بكسكسي التمر وهي أكلة تقليدية قديمة خاصة بالأعراس والمناسبات وتحضر بالتمر والمرق الأحمر الخاثر وتجمع بين الحلو والمالح.

وتعددت أنواع الكسكسي بين ذلك المصنوع من الشعير، القمح ، البلوط، البرغل، أشكال وألوان وأحجام الحبات اللؤلئية المختلفة التي قامت بفتلها سيدات يعرفن جيدا معنى قيمة الغذاء الصحي في توازن الجسم والحفاظ على قوته وصحته تعبقت منها مختلف روائح التوابل، حيث فاجأت السيدة رزيقة بوغلماني من البليدة الزوار بكسكسي البرغل، وهو من الأنواع الجديدة وغير المألوفة بالنسبة للكثيرين، وهو مسقى بالمرق الأبيض والحمص ولحم الدجاج، ذوقه مميز وفريد من نوعه.

من بين أنواع الكسكسي التي وقف أمامها الضيوف حائرين «السفة التلمسانية» وهو كسكسي حلو حباته دقيقة ولونه أبيض ناصع، مدهون بالزبدة الخفيفة ومزين بحبات الزبيب، الجوز، البندق، وفي وسط الصحن الكبير وضعت آنية زجاجية تحمل العسل الصافي، ليسقى به الطعام الذي رشت حباته ببعض القرفة، والمميز في الأمر أن كل من تناوله عاد مجددا للاغتراف منه، وكثر السؤال عن صاحبته، حتى أن بعض السيدات من تلمسان سألنها عن خاصية الذوق المميز كونه يحمل إضافات غير موجودة في «السفة»، أو «المسفوف» وهي ميزة إيجابية جعلت من يتذوقه أسيرا. تقول السيدة نرجس بوعزة عبيد: "جئت للمشاركة بطبق الكسكسي (تحلية)، رغم أن الجزائر تزخر بمختلف أنواع الكسكسي، إلا أنني اخترت (التحلية) لأنني أعرف أن الجميع سيشاركون بكسكسي المرق، لهذا وقعت بإبداعي من خلال عرضه في قالب مزين بالجوز والفواكه الجافة، و«حلوى الترك» التي تعطيه ذوقا فاخرا. إنه بالفعل تحلية خاصة للمناسبات السعيدة والقعدات الزينة".

ومن مائدة إليزي، استمتع الزوار بتناول كسرة «تاجلة» وهي أصيلة بالمنطقة ومصنوعة من القمح والماء، طهيت على الجمر، ثم نفضت، وحضر لها المرق الأحمر من عدس جانت ولحم الجمل، ومن التوابل التي دخلت في تركيبها؛ رأس الحانوت والكمون والقصبر ودهان الطاسليلي الأصيل.

«البربوشة» السطايفية و«المفرمسة» كانتا حاضرتين، حيث أعدتهما السيدة ضاوية زاوي التي تقول: «البربوشة أو الطعام، من أهم ميزات المطبخ السطايفي وتحضر باللفت السعيدي والحمص والخرشف وهي مكونات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، إلى جانب الطماطم والقصبر والفلفل الأحمر، بحيث لا نضع فيها الكثير من التوابل ويتم تناولها في نصفية شهر رمضان أو الأعراس، و«البربوشة» تحضر في سطيف بالقناطير، لأننا نعتمد عليها، إلى جانب الشوربة، ولا بد أن تصحب بالفلفل الأخضر الحار واللبن وحبات الزيتون المرفقة».

فاطمة الزهراء عريض مختصة في الكسكسي الجيجلي، أمتعت عشاق الكسكسي بذوق مختلف ليس بالمعهود لدى الجميع، فاستطاعت أن ترحل بمتذوقيه في متعة ساحرة بين البحر والبر، وتقول عن كسكسي الحوت: «ميزة طعام الحوت الجيجلي أنه مصنوع من الحبوب الأربعة؛ القمح، البلوط، الشعير والذرة، وفيه دواء كبير، وخال من الدسم فهو خفيف، لأن الحوت مليء بالمغنيزيوم، وهو علاج طبيعي للبطن والجهاز الهضمي ويلبي احتياجات الجسم من مختلف العناصر. ويستحيل أن يغيب عن أي بيت في جيجل». أما بشار، فشاركت بـ«المرود» المعطر بالأعشاب وطعام الشعير و«المخلع»، وهي من الأطباق المشهورة في المنطقة.

«بركوكس بالعصبان» و«المقيرنة» من الأكلات المميزة التي تطبع أفراح شرشال والقليعة، حيث يزين «البركوكس» الأبيض بـ«العصبان»، ويفتت الدجاج بالمرق الأبيض على «المقيرنة» ذات الذوق الساحر التي تحضر خصيصا ليوم الجمعة أو الأفراح بالقليعة، حسبما أكدته لنا السيدة شريفة ميموني.

وأشارت العارضات في معرض حديثهن إلينا، إلى أن المهرجان كان فرصة ذهبية لالتقاء المشاركات مع بعضهن، فبعيدا عن أجواء المنافسة، تمكنت الحرائر من تبادل الخبرات في مجال الطبخ، كما سنحت الفرصة للكثير منهن بتعلم طرق أخرى في الطبخ كن يجهلنها.