بريطانيا ترسم خروجها من الاتحاد الأوروبي

طلاق محتوم لزواج قسري

طلاق محتوم لزواج قسري
  • القراءات: 707
  م. مرشدي م. مرشدي

بعد 17 شهرا من مفاوضات عسيرة وتحديات كثيرة ومواقف متضاربة حد التنافر، وقعت المملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أمس على اتفاق تاريخي تم بمقتضاها ترسيم الطلاق البين بينهما وطي صفحة قرابة نصف قرن من تعاون اقتصادي ومصرفي كانت نهايته أمس في العاصمة الأوروبية بروكسل.

ولم يكن هذا الطلاق بين الجانبين بعد ”زواج قسري” فرضته ظروف دولية متعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية سوى تكريسا لرغبة غالبية البريطانيين الذين عبروا عن ذلك من خلال استفتاء نهاية شهر جوان سنة 2016 بعد أن اقتنعوا أن استمرار هذه العلاقة أصبح مستحيلا بعد أن وضعوا الأمر على كفتي ميزان الربح والخسارة واقتنعوا بأنهم لم يجنوا من الاتحاد الأوروبي ما كانوا يريدون على الأقل من وجهة نظر ترقية اقتصاد بلدهم.

ولم يكتف البريطانيون بالتعامل مع الموقف من وجهة نظر منفعية فقط ولكنهم يعتقدون أن ثقاتهم وطريقة تفكيرهم تختلف عن نظرائهم في القارة العجوز وأصبحوا ينظرون الى الدول الأوروبية الأخرى بمثابة عبء عليهم ويتعين فك الارتباط مع أحد أكبر التكتلات الاقتصادية والسياسية في العالم لضمان غد أفضل وأكثر رفاه.

وهو ما يفسر بقاء المملكة المتحدة خارج الإطار السياسي المشترك لدول الاتحاد الأوروبي الذي سعت دوله الى إعادة بناء بيتها المدمر جراء الحرب العالمية الثانية وفضلت إبقاء العلاقة مع بروكسل إلا في إطارها الاقتصادي المحض بدليل انضمامها إلى التكتل إلا في سنة 1973 في سياق دولي تميز خاصة بأزمة اقتصادية غير مسبوقة منذ أزمة النظام الرأسمالي سنة 1929 وكرستها أزمة النفط التي فرضتها الحرب العربية ـ الإسرائيلية شهر أكتوبر سنة 1973.

وقد اختارت المملكة المتحدة هذه المقاربة في وضع الإطار العام لعلاقاتها المستقبلية مع التكتل الناشئ على حدودها الجنوبية بالنظر إلى موقعها الجغرافي وأيضا بسبب حضارتها المتجذرة في التاريخ وتميزها عن الحضارات الأوروبية الأخرى مفضلة في ذلك التعامل مع مستعمراتها الأسيوية وعلاقاتها ”الأسرية” مع الولايات المتحدة الأمريكية إذا سلمنا بأن الأغلبية العظمى من الأمريكيين منحدرين من أصول بريطانية.

وهي النزعة ”الاستعلائية” التي جعلت فرنسا تعارض كل فكرة لانضمام بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي بقناعة أنها مجرد مطية لأمريكا لفرض منطقها على الدول الأوروبية سواء من وجهة نظر اقتصادية أو أمنية وحتى سياسية وخاصة بعد تهاوي دور القوى الاستعمارية السابقة والصعود اللافت لأمريكا كقوة فاعلة في المنتظم الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.

وإذا رجعنا إلى تاريخ هذه العلاقة ”المتذبذبة” فإن دخول بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة سنة 1973 بعد اعتراضات أوروبية متلاحقة، وخاصة من طرف الرئيس الفرنسي شارل ديغول، فإن الزواج الاقتصادي بين ضفتي بحر المانش حمل في طياته بذور القطيعة التي تم ترسيمها أمس بعد أن رفضت لندن الانضمام سنة 1979 إلى النظام المصرفي الأوروبي بدعوى المحافظة على سيادتها الوطنية وقيمة الجنيه الإسترليني، وهو الأمر أيضا الذي جعلها ترفض التخلي عن هذه العملة لصالح العملة الأوروبية الموحدة ”الاورو” وقبلها رفضها الانضمام إلى مجموعة فضاء ”شنغن” التي حاول واضعوها إزالة الحدود الدولية بين دوله وإقامة أوروبا الموحدة من الأطلنطي إلى الاورال. وهي ”الدولة العملاقة” التي رفضتها المرأة الحديدية مارغريت تاتشر سنة 1988 بحجة أنها لا تريد إخضاع بلادها لسلطة ”دولة أوروبية كبيرة” تمارس سلطاتها على الجميع انطلاقا من بروكسل.

ولذلك فإن قرار الطلاق البين بين العاصمتين كان منتظرا بدليل تراكمات الشك والريبة بينهما وكانت هذه النهاية أمرا محتوما على شريكين أصبح كل واحد منهما ينظر الى الآخر بعين طغت عليها مشاعر الخوف أكثر من الثقة المطلوبة.

ولم يبق مثل هذا الشعور مقتصرا على هرم السلطة في بريطانيا ولكنه انتقل الى عامة البريطانيين الذين ازدادوا قناعة أن المنتظم الأوروبي لم يجلب لهم الرفاه المنشود بقدر ما جلب لهم أعباء إضافية وهو ما فسر ترجيح كفة ”نعم” في استفتاء ”البريكسيت” يوم 26 جوان 2016.

وترسخت لديهم مثل هذه القناعة بعد أن دخل الاتحاد الأوروبي في متاهة أزمة مالية حادة وانهيار اقتصاديات دول لم تتمكن من اللحاق بركب ألمانيا وفرنسا وراحت شعوبها هي الأخرى تنادي بالخروج من منتظم لا ينتفع منه سوى الأقوياء.

وهي التجارب التي مرت بها دول مثل اليونان واسبانيا وحتى إيطاليا قبل أن تصل إلى دول الشرق الشيوعي مثل المجر وبولونيا التي انضمت الى الاتحاد مباشرة بعد انهيار المعسكر الشيوعي وما صاحبها من أحداث دولية توجت بانتهاء الحرب الباردة.

وهو ما جعل العواصم الأوروبية المتشبثة بمواصلة تجربة بناء اتحاد أوروبي قوي ينتابها شعور بأن خروج المملكة المتحدة قد يكون بمثابة لعبة ”دومينو” تتهاوى أحجارها تباعا وبداية لخروج دول أخرى والوصول بالتالي الى نهاية حلم واضعي لبنة اتحاد الحديد والصلب الأوروبيين سنة 1957 والذي شكل نقطة التقاء العواصم الأوروبية التي مهدت لإقامة الاتحاد الأوروبي من جوانبه السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.