أصبحت تميّز التشريعيات على الخصوص

8 أسباب في فهم ظاهرة العزوف

8 أسباب في فهم ظاهرة العزوف
  • القراءات: 22055
 محمد. ب محمد. ب

كرست تشريعيات الرابع ماي الجاري، حقيقة تكررت خلال السنوات الأخيرة بشكل مثير للاستفهام، تتمثل في ارتفاع نسبة المعبرين بالورقة البيضاء التي قاربت الـ25 %، من جهة وتنامي ظاهرة العزوف الانتخابي التي ناهزت هذه  المرة الـ63 % من جهة ثانية، ما يدفع على التساؤل الجدي حول الأسباب التي تجعل الناخبين الجزائريين لا يكترثون بهذه الانتخابات، بالرغم من حملات التحسيس الواسعة والرهانات الكبيرة التي تبنى عليها هذه الاستحقاقات.

ضعف مشاركة الجزائريين في الانتخابات التشريعية وعدد الأوراق «البيضاء» المسجلة في هذه الانتخابات، تصنع الحدث في مثل هذه الاستحقاقات، حيث ارتفع عدد الأوراق البيضاء من 1,6 مليون ورقة في تشريعيات 2012 إلى 2,1 مليون ورقة في تشريعيات 4 ماي 2017، مع الإشارة إلى أن كل ورقة «بيضاء» تعبر عن صوت لا يحسب، ولكن له دلالته السياسية العميقة يمكن فهمها على أن صاحبها أراد إيصال رسالة معينة بمناسبة هذا الموعد الوطني. أما الظاهرة التي لم يفهمها الكثيرون والتي تحتاج أيضا إلى دراسة وبحث معمّقين لمعالجتها، فهي التي ترتبط بتزايد نسبة العزوف الانتخابي في الانتخابات التشريعية وتراجع نسبة المشاركة التي لم تتجاوز 37,09 % في اقتراع 4 ماي الجاري مقابل 43,14 ٪ في تشريعيات 2012، فيما لم تتعد حدود الـ36 ٪ في تشريعيات 2007.

هذا الواقع الذي يدفعنا إلى طرح سؤل جوهري، مفاده «لماذا أصبح الجزائريون لا يذهبون إلى التصويت في الانتخابات التشريعية، بينما كانت هذه الانتخابات في السابق وحتى في عهد الحزب الواحد تعرف نسب مشاركة عالية تفوق الثمانين، بل وتقارب المائة بالمائة؟.

رغم أن ضعف نسبة المشاركة في الاستحقاقات ظاهرة دولية - مع استثناءات تخص البلدان التي تعتمد على الأنظمة الشمولية لا يقاس عليها-، فإن تسجيل نسب عالية من العزوف في الدول النامية في الديمقراطية مثلما هو حال بلادنا، يفرض البحث عن التفسيرات للأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة.  

يمكن ضبط أسباب عزوف الجزائريين عن التصويت في الانتخابات التشريعية في 8 عوامل نعتبرها عوامل مؤثرة بشكل كبير في هذه الظاهرة، المطلوب العمل على فهمها أكثر حسبما أشار إلى ذلك تقرير الملاحظين التابعين للاتحاد الإفريقي أمس.

طبيعة الانتخابات التشريعية

المألوف أن الانتخابات التشريعية لا تحظى بنفس الاهتمام ولا تستقطب المواطنين، كما هو شأن الانتخابات الرئاسية أو الانتخابات المحلية. فإذا كانت الأولى ترتبط بشكل مباشر باختيار من يقود البلاد، فإن الثانية ترتبط بالانشغالات المباشرة للمواطن وبصفة الجوارية.

البلدية والولاية تعتبران في نظر المواطنين الأقرب إلى همومهم ويومياتهم، لأن مهام المجالس المحلية متصلة مباشرة بالحي وبالمدينة وبالقرية وبالشارع، والاحتكاك المباشر اليومي مع المواطن، لذلك يحرص المواطنون على الإدلاء بأصواتهم ويبدون أكثر استعدادا للمشاركة في اختيار ممثليهم بالانتخاب، عكس الانتخابات التشريعية التي ترتبط بمهام من مستوى أعلى يرتبط بوضع النصوص القانونية والتشريعات المتصلة بالسياسات الوطنية، ما قد يراه المواطن «خطأ» أبعد عن يومياته وانشغالاته المباشرة.

سلوك المواطن الجزائري نفسه

لم يعد الجزائريون يكترثون بالحياة السياسية في أيامنا، خلافا لما كان عليه الأمر في عهد الحزب الواحد، حيث كانت الانتخابات بمثابة فعل وواجب وطني شبيه بالوقوف للراية أو للنشيد الوطنيين.

الحقيقة أن المواطن الجزائري لم يعد يهتم حتى بالنشاط الجمعوي ولا يشارك في التنظيمات النقابية، بل ولا ينخرط حتى في جمعيات أولياء التلاميذ وجمعيات الحي وغيرها.. حتى أن هذا النفور جعل المجتمع الجزائري يعيش نقصا فادحا من حيث فعالية «المجتمع المدني» عكس الدول التي تمتاز بديمقراطية متقدمة. وربما هذا ما دفع المكلف بالإعلام في الحزب العتيد الوزير السابق موسى بن حمادي لاعتبار الحملة الانتخابية فرصة تتجدد كل 5 سنوات لتلقين المواطن ثقافة سياسية وتحسيسه بأهمية التقرب من التنظيمات سواء السياسية أو الجمعوية الأخرى.

إن الخلط مازال قائما ومتداخلا في أذهان الكثير من الجزائريين، لاسيما الشباب منهم بين المجتمع المدني من جهة وما كان يعرف بالمنظمات الجماهيرية والسياسية من جهة أخرى، مع أن الفرق واضح بين الحركة الجمعوية التي تعنى بقضايا الشأن الاجتماعي والتنظيمات الجماهيرية السياسية كالتنظيمات الطلابية والاتحادات المهنية التي عادة ما تختار توجهها السياسي.

 أكثر من ذلك، فإن السنوات «الطوبية» لحكم الحزب الواحد ولدت في الذهنيات روح الاتكال، حيث ألف الجزائريون انتظار كل شيء، وتراجع في المقابل مبدأ المبادرة والاعتماد على النفس. وإذا سلمنا بهذه التفاصيل، فإنه يمكن القول أن العزوف يكاد يكون تفسيرا ونتيجة طبيعية لما سبق ذكره.

هاجس «التزوير» والتشكيك   في نزاهة الانتخابات

 لم يكد يخل استحقاق انتخابي في الجزائر بعد ولوج مرحلة التعددية الحزبية، من شبهة التشكيك والتزوير، لا سيما بعد صدمة تشريعيات 1997 أو ما وصف يومئذ بـ«التزوير الشامل»، حتى وإن قدمت سلطات تلك المرحلة تبريراتها التي أكدتها شهادات الفاعلين في تلك الفترة اليوم، وعللتها بالقول إن ماحدث كان يقتضيه الوضع الأمني وفراغ المؤسسات وفرار الإطارات، والحاجة لإنقاذ الدولة ومؤسساتها.

لكن تلك الممارسات مبررة كانت أو غير مبررة وموضوعية أو غير موضوعية، ولدت في أذهان الناس، أن كل شيء مرتب مسبقا ولا داعي للإدلاء بالصوت. وهي الورقة التي استغلتها بعض الأطراف ومنها «الفيس» المحل طويلا، حيث بدأ من حينها الحديث عن «كوطات» و«اقتسام الكعكة» بين كبار الأحزاب، وإعطاء بعض ما تبقى من فتات لأحزاب ومترشحين «ليس لهم وزن مؤثر» في الساحة السياسية.

 نوعية المجالس المنتخبة 

إن الأرقام المقدمة حول متابعة أكثر من 800 رئيس بلدية على المستوى الوطني بتهم الفساد وسوء التسيير أسهم أيضا في تنفير المواطنين والناخبين.

كما أن رفع أجور النواب وخصهم بامتيازات مثيرة للانتباه وتأويلات الرأي العام، وكذا انفصالهم عن قواعدهم بمجرد وصولهم إلى قبة البرلمان، وما لاحظه المشاهدون على الفضائيات والقنوات التلفزيونية من غياب تام لهؤلاء النواب أثناء الجلسات ومناقشة قوانين مصيرية، يتم تمريرها دون إثراء، صنع شرخا في مفهوم علاقة الشعب بممثليه، إضافة إلى الشبهات التي تلاحق بعض النواب في قضايا فساد وغيرها.

يكفي أن الأغلبية الساحقة من النواب لم يفتحوا مكاتب أو مداومات في ولاياتهم الأصلية، لتسجيل انشغالات المواطن ومعالجتها والاستفادة منها في اقتراح مشاريع قوانين، ترفع إلى الحكومة وإلى المجلس الشعبي الوطني. وقد تسبب هذا الطلاق المبين بين النائب ومنتخبيه في قطع العلاقة خلال التشريعيات الأخيرة، ولم ينج إلا الذين برروا حضورهم بمداخلات ومرافعات قوية داخل المجلس الشعبي الوطني، مكنتهم من العودة مجددا بدون عناء إلى التمثيل النيابي، حيث مروا بدون متاعب بعد التصويت عليهم من قبل الشعب.

الأزمات والتصدعات داخل الأحزاب السياسية 

توسعت في السنوات الأخيرة ظاهرة الانشقاقات أو ما يعرف بـ«التصحيحيات» التي هي في الحقيقة انقلابات بين قيادات الحزب الواحد.

تلك الأزمات لعبت دورا في تنفير الناخبين والمواطنين وأعطت صورة على أن حرب الزعامات ليس أكثر من طموحات شخصية لأصحابها، وليست بسبب مبادئ تصب في خدمة المواطنين والمناضلين، مع الإشارة إلى أن هذه التصدعات لم ينج منها في السنوات الأخيرة، تقريبا أي حزب كبيرا كان أو صغيرا.

الأزمة الاقتصادية وتأثيراتها على الوضع العام

لقد أصبحت العمليات الانتخابية تعطي صورة على أنها غير مجدية في تغيير أحوال المعيشة وتحريك المشاريع التنموية، بل لم يتردد الكثيرون في توصيفها بأنها لا تعدو أن تكون أكثر من تبذير للمال العام، بفعل ما ينفق وما يخصص من إمكانيات من أجل تنظيمها يعتبر الكثير من المواطنين بأنه كان من الأفضل أن تذهب مباشرة إلى التنمية. وكادت أن تترسخ للأسف صورة أن الانتخابات لم تعد تغير الواقع المعيشي، ولا تسهم في تلبية الانشغالات والمطالب الاجتماعية، وبدل أن تكون محطة بعث الأمل ورهان لتغيير الأحوال نحو الأحسن، أصبحت برأي كثيرين محطة متقدمة من اليأس.

حملات المقاطعين

لعبت أطراف عديدة عبر وسائل الإعلام المتعددة، وفي مقدمتها التكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال، وشبكات التواصل الاجتماعي، لا سيما «فايسبوك» و«تويتر» و«يوتوب» بإثارتها حملات التشكيك والتنفير، على ترسيخ رسالة سياسية، مفادها أن الانتخابات التشريعية لن تغير شيئا، ولن تفيد الجزائريين في تغيير وضعهم الاجتماعي، بل تحركت هذه الحملات في كثير من الأحيان بشكل منظم ومحسوب بشكل أكبر، أثر مباشرة على نسبة المشاركة. 

وحتى وإن حصل إجماع على أن دعاة المقاطعة سواء من السياسيين أو هؤلاء الشباب الذين بنوا رسائلهم السياسية على فعل اجتماعي وترفيهي أحيانا، لا يحققون استجابة واسعة في أوساط الشعب، بالنظر إلى مستوى الوعي العام لكل فئة من فئاته، إلا أن ذلك لا يمنع من تأثير هذه الحملات ولو في فئة محدودة تشمل شرائح المناصرين والمتعاطفين مع أصحابها.

القانون الانتخابي ذاته 

إن القانون الانتخابي ذاته تغمره بعض النقائص والثغرات التي تستدعي ـ حسب العديد من المتابعين ـ عملا معمّقا لتداركها، تزايدت المطالبة بتغيير هذا النظام الانتخابي في الفترة الأخيرة، انطلاقا من اعتبار أن الناخبين يفضلون العودة إلى نظام القائمة الاسمية بدلا من النظام النسبي، من أجل فرز الكفاءات والمرشحين النزهاء، الذين يحظون بصيت وبسمعة طيبة في أوساط المواطنين. مع الإشارة إلى أن العودة إلى نظام القائمة الاسمية يهدف في عمقه إلى تحقيق أمرين أساسيين: يتمثل الأول في إنهاء الصراعات والانقسامات داخل التشكيلات السياسية المعنية، أثناء إعداد وضبط القوائم الانتخابية واختيار متصدريها، فيما يتمثل الثاني في اختيار الأكفأ والأنسب مهما كان ترتيبه، لذلك كما يلاحظ المراقبون، فإن الكثير من النواب ومن الأسماء سواء في المجالس الوطنية أو المحلية، ما كان لهما أن تفوز لو تم اعتماد القائمة الاسمية، وأن فوزها يعود إلى المرتبة التي احتلتها في القائمة لا أكثر ولا أقل، حتى صار من نتاج هذه الصيغة المعتمدة التوصيفات التي لاحقت المجلس الشعبي الوطني المنتهية عهدته، على أنه برلمان «الحفافات».