طباعة هذه الصفحة

ابن باديس الشيخ المجدد

وهب حياته لتفسير القرآن وإصلاح الأمة بالعلم

وهب حياته لتفسير القرآن وإصلاح الأمة بالعلم
  • القراءات: 2945
❊❊ زبير.ز  ❊❊ ❊❊ زبير.ز ❊❊

عادت الذكرى الثامنة والسبعون لرحيل العلامة الشيخ عبد الحميد ابن باديس، رائد الإصلاح وباعث النهضة الفكرية في الجزائر، والتي امتد صداها إلى الدول العربية والإسلامية. وقد رحل شيخ الجزائر في 16 أفريل 1940 تاركا رواءه رصيدا فكريا ومنهجا علميا، يعكس مدى تمسكه بالرسالة المحمدية وبالقضية الوطنية داخل البعد القومي، هو الذي كان يرى أن خلاص الشعب الجزائري من ظلم الاستعمار يكمن في العلم، ويرى أن تقدم أي شعب لن يكون إلا بالعلم. هو الذي خرج عن المألوف عندما ساوى بين الرجل والمرأة في طلب العلم، لأنه كان يعي جيدا أن تكوين وتعليم المرأة وفق الأسس السليمة سينتج لا محال مجتمعا صالحا.

رحل ابن باديس ولم يخلف وراءه ابنا ولا ابنة، بعد وفاة ابنه الوحيد في عمر مبكر، عقب حادث صيد، بل ترك وراءه "جمعية العلماء المسلمين". كما حدث بعد وفاته، جدل كبير بين مؤيد لطريقته ومنهجه الإصلاحي وبين معارض، بين من يصر على أن شرارة الثورة التحريرية نتاج عمل فكري قامت به الجمعية طيلة سنوات قبل أن تتبلور وتتحول إلى عمل مسلح، وبين من يروج لفكرة أنها التحقت متأخرة بركب الثورة.

رحل ابن باديس محارب الطرقية، وهو على المذهب السلفي المعتدل، وترك وراءه تفسيرا للقرآن الكريم وفق النظرة المجتمعاتية الجزائرية، كما ضاع معظم الأرشيف المتمثل في دروس الشيخ بجامع سيدي لخضر والجامع الكبير بسبب غياب الاهتمام، رحل وهو الفقير الذي ينتمي إلى عائلة ميسورة وكبيرة في المجتمع، رحل بعد مرض أصابه من شدة التعب والسهر المتواصل في سبيل تدوين العلم، رحل وهو وحيد داخل غرفته بعيدا عن زوجته التي انتقلت إلى تونس عندما أيقنت أن الرجل اختار طريقه وكرس كل وقته للعلم ولطلبة العلم، رحل ابن باديس الصنهاجي الأمازيغي وشيّعت جنازته بقسنطينة، في موكب ضم أكثر من 100 ألف مشيع من مختلف أنحاء الوطن، ولو لا إصرار السلطات الفرنسية على دفنه في نفس يوم وفاته لكان عددهم أكبر بكثير. 

فكر إصلاحي صالح لكل زمان ومكان

يجمع العديد من المؤرخين من شهادات الذين عاشوا في نفس فترة ابن باديس، أو من المفكرين والأساتذة الذين اهتموا بدراسة أعماله الفكرية، أن فكر العلامة إصلاحي صالح لكل زمان ومكان، بل يؤكدون أن الجزائر وكل الوطن العربي بحاجة إلى هذا الفكر الإصلاحي، في ظل ما تعيشه الأمة العربية من اختلافات طائفية وغيرها، ويرون أنّ الشيخ ساهم بشكل كبير من خلال أفكاره الإصلاحية في إخراج المجتمع من الجمود الفكري السائد آنذاك، من خلال دعوته إلى الفكر ومواكب الحداثة والتقدم، وهو ما تذهب إليه الأستاذة التونسية كريمة محمد كربيع من جامعة الرياض بالسعودية بعدما وقفت على أن فكر العلامة يدرّس حتى بالجامعات العربية الحديثة. معتبرة أن الشيخ ابن باديس ليس شخصية مفردة بذاتها، بل هو رمز ضمن حركة كاملة إصلاحية سلفية حديثة، حاولت العودة إلى النص الديني بالقراءة قصد قراءة جديدة، تخرجه من طور الجمود الذي عاشه المجتمع لفترات طويلة، وتجعله يواكب مرحلة الحداثة والتقدم، مشيرة إلى أن العلامة رمز للإصلاح، كما أن منهجه هو التربية والتعليم، وفق نظرة تراهن على الشباب والنشء وهو الذي أنشد "يا نشء أنت رجاؤنا".

تنبأ باستقلال الجزائر

يرى الدكتور عبد الله فيلالي، باحث في التاريخ وأستاذ جامعي ورئيس مؤسسة الشيخ بن باديس، أن رائد الإصلاح الجزائري بدأ حياته النضالية بالعلم والتعليم، وكان يناضل في هدوء دون إثارة الإدارة الفرنسية، وعليه، فإنّ ابن باديس لم يفصح عن نواياه السياسية لهذه الأسباب، قبل أن يعلن عن موقفه الواضح بعد 11 سنة من التعليم ونشر الأفكار التنويرية. مضيفا أن ابن باديس دخل المعترك السياسي وعبّر عن رأيه هذا صراحة، عندما قال كلمته المشهورة؛ إنّ "العلم والدين لا يستقيمان ما لم تستقم السياسة".

الدكتور فيلالي الذي نشر عدة مؤلفات حول حياة وفكر الشيخ عبد الحميد بن باديس، يعتبر أن العلامة كرس 27 سنة من حياته في سبيل العلم والنضال وفق خطة منهجية مدروسة، بهدف تحرير العقول والبلاد، فهو الرجل الذي كان يرى أنّ النضال الثقافي أصعب من النضال السياسي، ويشكل طريقا ووسيلة لإحداث الثورة في العقول أولا، ثم على المستعمر ثانيا، معتبرا أن المناضل الثقافي يجب أن يتوفر على نفس طويل وإمكانيات ذهنية كبيرة لتوعية المجتمع، وهذا ـ طبعا ـ ما قام به الشيخ ابن باديس الذي أفصح عن نواياه في تشجيع النخب على دخول البرلمان، والمطالبة بالاستقلال عندما قالها صراحة "نحن نعمل من أجل الاستقلال". مؤكدا بذلك أن الاستقلال حق من حقوق كل الأمم، وأن أمما أقل شأنا من الجزائر استقلت،  وعليه تنبأ الشيخ باستقلال الجزائر، كما كان يرى أن أمل الأمة الجزائرية في ميدان النهضة معلّق على قسنطينة.

يرى الدكتور فيلالي أن أحسن دليل يرد على المشككين في مساهمة جمعية العلماء في الثورة التحريرية، هو مشاركة 280 من طلبة معهد ابن باديس وشيوخه في العمل المسلح لثورة الفاتح نوفمبر، وهي الحقيقة التي تحدث عنها الدكتور عبد الله مقلاتي في إصدار حمل عنوان "إسهام شيوخ معهد عبد الحميد بن باديس وطلابه في الثورة التحريرية".

وهب نفسه للعلم وتفسير القرآن

يؤكد عبد الحق بن باديس شقيق الشيخ عبد الحميد، أن العلامة وهب نفسه للتعليم ووضع برنامجا لتفسير القرآن الكريم، فكان نشاطه منصبا على التعليم وتفسير القرآن، الذي وضعه كهدف نبيل في مسيرة حياته القصيرة التي لم تتجاوز 51 سنة، حتى أن الشيخ انقطع عن الشعر، ولم يتعاطاه إلى غاية اقترابه من إنهاء تفسير القرآن، وكان ذلك بحوالي سنة فقط.

يكشف عبد الحق بن باديس في دردشة مع "المساء"، أن شقيقه وكل العائلة تعرضوا لضغوط من السلطات الاستعمارية، حيث عاد بالذكريات إلى سنوات خلت، والأزمة المالية التي وقع فيها الوالد، ورفض السلطات الاستعمارية تسهيل مهمة اقتناء قرض من البنك، رغم أن كل تاجر كان وقتها يستطيع الاستدانة من البنك، حيث ربطت فرنسا ذلك وساومت بمنح القرض، مقابل توقف الشيخ عبد الحميد عن كل نشاطاته الفكرية والثقافية، وهو الأمر الذي رفضه الشيخ جملة وتفصيلا، مما اضطر العائلة إلى بيع المزرعة التي كانت تملكها بوادي زناتي، وبيع مسكن الشيخ بن باديس الذي كان يأويه، وهو بيت في عمارة يقع في الطابق الثالث بحي سيدي جليس، وعليه انتقل الشيخ للعيش إلى بيت آخر استأجره.

يقول عبد الحق بن باديس بأنه عندما كان في سن الـ12 سنة، جمعته رحلة مع شقيقه عبد الحميد نحو غابة جبل الوحش، حيث أكد وقتها أن الشيخ ضاق بممارسات السلطات الاستعمارية، فأراد الخروج للتنزه قليلا مستعملا سيارة الوالد، وخلال هذه الجولة ـ أضاف عبد الحق ـ دار حوار بين الشقيقين حول بيع بيت عبد الحميد وخروجه للعيش في بيت مستأجر، مؤكدا أن عبد الحميد خاطبه قائلا دون ما أتلوه، وانظم يقول "كم من عالم يسكن بيت بالكراء.. وجاهل يملك دور وقرى"، ثم تلا الآية الكريمة"أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ * نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا * وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيا * وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"، وهنا يقول عبد الحق؛ زال الغم عني بعدما سمعت هذه الآية من الشيخ.

سلفية بعيدة عن التشدد والمغالاة

لا يختلف اثنان عن المذهب الذي اتّبعه الشيخ عبد الحميد بن باديس  في حياته وأورثه لتلامذته ومتتبعيه، وهو المذهب السلفي، حيث فتح الشيخ عينيه على المدرسة القرآنية قبل أن يرحل إلى الزيتونة ليواصل طلب العلم، ثم إلى الحجاز، حيث كان له اللقاء مع الشيخ البشير الإبراهيمي، رفيق دربه في النضال الفكري والإصلاحي، كان الاتفاق على العودة إلى الجزائر من أجل غرس بذرة العلم والإصلاح، وفق مذهب سلمي معتدل، حسبما اتفق عليه جل المفكرين من الجزائر وحتى من العالم العربي.

يرى الدكتور سعد بن علي الشهراني من المملكة العربية السعودية والأمين العام لهيئة العلماء المسلمين، أنّ السلفية أسمى من هذا التشدد التي تشهده الدول العربية والإسلامية والغلو في الدين، معتبرا أن الشيخ عبد الحميد بن باديس وزميله الشيخ البشير الإبراهيمي، جسدا هذه السلفية في أسمى معانيها ووصف الرجلين بصاحبي النظرة الاستشرافية المستقبلية، بعدما تمكنا من رسم خطة واستراتيجية ناجحة في مواجهة المستعمر، من خلال تسطير أهداف واضحة وعلى رأسها نشر اللغة العربية، لإدراكهما أن الاستعمار جاء لمحاربة مقومات الأمة، إضافة إلى نشر العلم الشرعي في أوساط المجتمع، ونقد المشعوذين والطرقيين وأساليبهم المضللة التي حاولوا نشرها في المجتمع الجزائري لضربه في عقيدته.

حسب الدكتور الشهراني، فإن الشيخ المجدد ابن باديس تمكن من تنفيذ خطته الإصلاحية على أرض الواقع مباشرة بعد العودة من السعودية، من خلال نشر الدروس والخطب والتعليم والتربية في المساجد بين سنتي 1913 و1925، مع التركيز على تعليم النشء الصاعد، وبذلك تمكن من تكوين جيش من الطلبة في مختلف التخصصات، هذه المرحلة لاقت نجاحا كبيرا، تضاف لها المرحلة الثانية من النضال التي كانت بين 1925 و1931، حيث عمل الشيخ ابن باديس على أكثر الوسائل تأثيرا من خلال استغلاله للصحافة وتأسيسه لجريدة "المنتقد" سنة 1925، كانت جريدة جريئة في انتقاد الطرق الصوفية الرديئة وعرّت حقيقة الاستعمار. كما أصدر ابن باديس جريدة "الشهاب" تحت شعار "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بإصلاح أولها"، ومن ثمة بدأ التأسيس لوضع النوادي الثقافية والجرائد المقاومة. أما المرحلة الثالثة فقد كانت بداية من سنة 1930 بتكوين جمعية العلماء المسلمين التي أعدت جيلا كاملا احتضن الثورة وساهم في تحرير البلاد.

 

الجمعية خلّصت النخبة من عقدة النقص

 

يعتبر الدكتور عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أن الجمعية تحت قيادة الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس، خلّصت النخبة الجزائرية من عقدة النقص أو الاستعلاء، مؤكدا أن النخبة الإيجابية هي التي تعتمد في مرجعيتها على العمل المشترك مع المجتمع، ويكون منهجها شموليا إصلاحيا، يرتكز على إصلاح الإنسان والمجتمع بإصلاح العقل، ثم المجتمع، إلى إصلاح المنظومة والابتعاد عن المفهوم الحزبي الضيق، مع التركيز على التربية والتعليم. معتبرا أن أزمة النخبة العربية أزمة خانقة تعاني من سوء التسييس وكثرة التلبيس.

يركز رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على ثلاثية النخبة والإصلاح والوطن، معتبرا أن النخبة التي عرّفها بـ«البوصلة المشعة التي تطلع على الداء وتصف الدواء"، تنقسم إلى ثلاثة أنواع، فيها الطلائعية وهي المحبذة، ثم الاستيلابية واللامنتمية، معتبرا أن النخبة مطالبة بالتحلي بالخطاب المنهجي والعمل الميداني. مع الالتزام بكل الجهد الفكري أو ما وصفه بالجهاد الأبيض، ويرى أنّ حلقة الوصل بين النخبة والإصلاح يكون الوطن دون التقليل من البعد القومي والديني للأمة، خاصة أن الجمعية وضعت في اهتماماتها أمهات القضايا العربية والإسلامية، وعلى رأسها قضية القدس وفلسطين.

❊❊ زبير.ز  ❊❊