من روايات القائمة القصيرة لجوائز البوكر العربية

‘’الديوان الإسبرطي" تستذكر تفاصيل تاريخية

‘’الديوان الإسبرطي" تستذكر تفاصيل تاريخية
  • 1039

تعتمد الرواية التاريخية في الأعم الأغلب، على السرد المتسلسل، لكن رواية "الديوان الإسبرطي"، الصادرة عن "دار ميم للنشر" في الجزائر، للروائي عبد الوهاب عيساوي، تُراهن على السرد المتناوب الذي تقوم به خمس شخصيات رئيسة هي؛ "ديبون، كافيار، ابن ميار، حمة السلاوي ودُوجة". كما تنطوي الرواية على أكثر من 30 شخصية ثانوية، تؤدي أدوارها المؤازرة للشخصيات المحورية، وتؤثث الفراغات التي قد تُترَك بين تضاعيف المتن السردي.

تغطي الرواية الحقبة الزمنية المحصورة بين عامي 1815 و1833. أما المكان فيمتد من الجزائر إلى باريس، وبعض المدن والموانئ الفرنسية، وينتهي بإسطنبول، عاصمة الدولة العثمانية آنذاك. تأخذ الرواية طابع اليوميات، أو المذكرات الشخصية، ولو شئنا الدقة لقلنا "الاستذكارات". فالرواة الخمسة يستذكرون ما مر بهم من أحداث قد تبدو ضئيلة، لكنها في واقع الحال تنطوي على كثير من التفاصيل الدقيقة التي ترصد طبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية، من دون أن تهمل الجوانب السياسية في المثلث التركي- الجزائري ـ الفرنسي. ولعل أهم ما في هذه التفاصيل، دراسة الطبائع الاجتماعية للإنسان التركي والفرنسي والجزائري، عبر ثنائية القوة والضعف، التحرر والاستعباد، الأوهام والحقائق الدامغة. وثمة تفاصيل أخرى ترصد طبيعة الإنسان الجزائري، أو المغاربي العربي بشكل عام، من خلال عقليته الشفاهية التي لا تُحب التدوين، على غرار الإنسان الأوروبي، أو التركي بدرجة أقل، هي التي منحت النص السردي بُعدا معرفيا شديد الإغراء، ساهم إلى حد كبير، في تسريع الإيقاع السردي المتباطئ، وانتشال الرواية من سكونيتها أو حركتها الدائرية التي تتكرر خمس مرات في القسم الواحد من أقسام الرواية الخمس.

تحتاج هذه الرواية إلى صبر طويل لمواصلة قراءتها من قبل الكثير من القراء، الذين يبحثون عن أحداث متسارعة لا توفرها رواية "الديوان الإسبرطي"، التي تلتف حول نفسها بحلقة دائرية، قبل أن تندفع للأمام، لتعاود الكَرة من جديد، ملبية طلب الأصوات المتعددة التي تروي استذكاراها بطريقة دائرية لا يشعر القارئ باندفاعها إلا لماما.

اختار عبد الوهاب عيساوي شخصيتين فرنسيتين، أولهما ديبون، مراسل الحملة عام 1830، وهو شخص مناصر للقضية الجزائرية، لا يجد حرجا في تعرية الممارسات القمعية للاستعمار الفرنسي، وينشر مقالاته في صحيفة "لوسيمافور دو مرساي".

لعل أبرز ما جاء في يومياته، حديثه عن بورمون الذي اختاره الملك لقيادة الحملة الفرنسية، رغم أن الكثيرين يؤاخذونه على خيانته القديمة في واترلو، ولن تشفع له كل المعارك التي خاضها، والتضحية بولديه اللذين قُتلا في الجزائر. وعندما سقط الملك في باريس، لم يجد بورمون أمامه سوى المنفى الإنجليزي، حيث ينتظره الملك المعزول. أما الشخصية الفرنسية الثانية، فهي كافيار الذي كان وزيرا في حملة نابليون، وأسيرا سابقا لدى الأتراك. فلا غرابة أن يحقد على الأتراك والجزائريين معا. وثمة وصف دقيق لطرق التعذيب التي تعرض لها بشكل فردي وجماعي، سواء في حمل الصخور الثقيلة لمسافات طويلة وتفريغ قفاف الملح من السفينة إلى صناديق مهيأة على رصيف الميناء والنوم الجماعي لكل ثلاثين شخصا في غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها تسعة أمتار مربعة. تختصر هذه الشخصية الفرنسية أشياء كثيرة في الرواية، مثل الحديث عن القيود التي وضعت على يهود الجزائر، أو وصف المعالم الخارجية للقبائل، أو الحديث عن بوتان، الجاسوس الذي أرسله نابليون لكي يكتب تقاريره السرية عن الجزائر، ويرسم خرائطها التي تعينه أثناء الحملة العسكرية. باختصار شديد، هذا الرجل الذي دخل الجزائر مغلولا، وعاد إليها من جديد لكي يضع القيود في أرجل الأتراك والمُور معا. في مقابل الشخصيتين الفرنسيتين، يقدِّم لنا عبد الوهاب عيساوي ثلاث شخصيات جزائرية هي؛ ابن ميار، حمة السلاوي ودُوجة بائعة الهوى التي ستتوب وتكرس حياتها للسلاوي. يحتل ابن ميار مناصب متعددة، لكننا سنكتفي بمنصب كاتب الديوان الذي يدون فيه شكاوى المواطنين، ويرفعها إلى المسؤولين الجزائريين والفرنسيين، لكنه يؤكد بين آونة وأخرى، أن الجزائر لن تكون إلا لأهلها. ومن بين الأشياء الكثيرة التي يرويها قصة نهب المساجد وتدميرها، مثل مسجد "السيدة" الذي سووه بالأرض، وجامع "كتشاوة" الذي حولوه إلى كنيسة. وحينما تصل شكايته الأولى إلى الملك، تأتي اللجنة، لكنه لم يجنِ منها سوى النفي والترحيل إلى إسطنبول، هو وزوجته لالة سعدية، تاركين دُوجة عند لالة زهرة التي تنتظر عودة حمة السلاوي على أحر من الجمر. يمكن وصف الشخصية الرابعة حمة السلاوي بأنه جزائري عربي مُحب لوطنه، كاره للخونة والمتآمرين، وسوف يقتل المِزوار لأنه اغتصب دُوجة، واعتدى على كثير من فتيات "المحروسة"، الاسم الآخر للجزائر. وبسبب هذه "الجريمة"، يجد السلاوي نفسه مضطرا للاختباء، بعد أن أصيب بطلق ناري في ساقه، وهو يفكر جديا في مغادرة "المحروسة" رفقة دُوجة، والالتحاق بجيش الأمير عبد القادر.

تروي دُوجة، وهي الشخصية الخامسة، قصتها أيضا، فنُفجع بموت والديها وشقيقها الأوحد منصور، ثم يدفعها الفقر المُدقع لتجد نفسها في حي البغاء. وبما أنها جميلة، فإنها تقع تحت رحمة الأعين المتربصة بها، فتنتقل من بيت تاجر لآخر، لكنها تصبح في خاتمة المطاف مطربة في فرقة لالة مريم التي تكلفها بإحياء حفلة خاصة لأحد السادة الأتراك، وتنجح في مهمتها، لأن خامة صوتها جميلة، لكن المِزوار كان يتربص بها الدوائر. فقد أجبرها على الذهاب إلى أحد الأغاوات، وطلب منها تنفيذ رغباته. وحينما أخذ منها وطره، هربت من المنزل، لكنها وقعت بيد المزوار ثانية، حيث أخذ منها كل النقود التي كانت بحوزتها، لكنه لم ينجُ من عقاب السلاوي الذي قتله طعناً بالسكين، وهرب ليختبئ بعيدا عن الأنظار. وقبل رحيل صديقه الحميم ابن ميار، سحبت زوجته قلادة ذهب تحمل مصحفا صغيرا، وعلقتها في عنق دوجة التي شعرت لحظتها أن الله الذي اختار أمها إلى جواره قد أحاطها بأمهات كثيرات، مثل لالة سعدية وزهرة وغيرهن من النساء اللواتي طوقنها بالرعاية والمحبة والحنان.

يبدو الكاتب الشاب عبد الوهاب عيساوي (1985) أكثر الروائيين الجزائريين أمانة للحوادث التاريخية، التي وقعت بين معركة واترلو في 18 جوان 1815، والسنوات الثلاث التي أعقبت الحملة الفرنسية على الجزائر عام 1830. ولعل الميزة الأكثر أهمية لهذه الرواية، حيوية هذه الشخصيات ومصداقيتها، إذ نجح عيساوي في إحياء التاريخ، واستنطاق قصصه التي ظلت مركونة على أرفف المكتبات لأكثر من قرنين من الزمان.

تلامس الثيمات الفرعية للرواية أحداثا مؤلمة تهز المشاعر الإنسانية، حينما يفرق جنود الاحتلال الفرنسي بين اليولداش الأتراك وزوجاتهم الجزائريات اللواتي خلفوهن في الجزائر، رغم أن الانكشاريين محتلون أيضا، لكنهم يستحقون تسوية إنسانية عادلة من أجل زوجاتهم وأبنائهم الذين وجدوا أنفسهم في ظروف عصيبة لا يُحسدون عليها. تفحص الرواية في مواضع متعددة شخصية نابليون بونابرت، وتصفه بـ«المجنون الذي يركض وراء أحلام لا حدود لها". فرغم خبرته الحربية، فإنه قاد مقاتليه إلى كوارث كثيرة أفضت به إلى المنفى والعزلة الانفرادية.