«باية” تحتضن العملاق مصطفى أجاووت

من سار على الدرب وصل

من سار على الدرب وصل
  • القراءات: 788
❊ مريم.ن ❊ مريم.ن

يتزين رواق باية في قصر الثقافة إلى غاية 13 أكتوبر الجاري، بروائع المنمنمات التي ترصد مشوار خمسة عقود تقريبا من الزمن، سمحت لصاحبها الفنان مصطفى أجاووت من أن يبلغ العلا في هذا الفن المرتبط دوما بالهوية الجزائرية، ويحمل المعرض عنوان الأب وأبناؤه كرمز على استمرارية هذا التراث الفني. كما يتضمن بعضا من مشوار هذا الفنان الذي سطع نجمه خارج الجزائر منذ السنوات الأولى من عقد السبعينات، والذي يجده الزوار مسجلا على أكبر العناوين العربية.

يكتشف الجمهور منذ الخطوة الأولى من ولوجه هذا المعرض، مسار الفنان أجاووت، وينطلق في قراءة مساره الفني المكتوب على قصاصات الصحف العربية، منها من يرجع تاريخها إلى سنة 1971، تشيد بما يقدّمه من إبداع تفوح منه رائحة الجزائر المقاومة، فأفاضت أيضا بعض العناوين اللبنانية في تقديم مصطفى المبدع الذي يسبق جيله بخطوات، وهو الذي نظم أول معرض له سنة 1971 في الجزائر، وفي عدة دول عربية شقيقة، وكان بمثابة السفير للبلد المناضل الذي خرج لتوه من ظلمات الاستعمار، علما أن الجزائر كافأت ابنها مصطفى واعترفت له بالموهبة، من خلال إعطائه الجائزة الوطنية الكبرى بمناسبة عيد الاستقلال العاشر المصادف لـ5 جويلية 1972 .

شبّ هذا الفنان على القيم الوطنية وحبّه الجنوني لبلده، كيف لا وهو الذي عاش ويلات حرب التحرير واكتوى بنيرانها، رغم أنه كان طفلا بريئا، حيث استشهد والده سنة 1956 تاركا أمه وحيدة مع ثلاثة أبناء كان هو أكبرهم لا يتعدى عمره الـ8 سنوات.

وجد هذا الفنان كل الدعم والرعاية من والدته، ثم من خاله الذي تكفّل بأسرته، وكان يشجّعه على التعليم وأيضا على فن المنمنمات، الذي يمثّل وجها لثقافة المقاومة الثقافية للجزائر، وبالفعل توجّه مصطفى منذ مرحلة الثانوي إلى مدرسة الفنون الجميلة، واحتك مع أساتذته الفنانين، منهم الراحل غانم الذي شاركه بعض الأعمال.

عندما أقام مصطفى أجاووت معرضه الأوّل مطلع السبعينات، بيعت كل لوحاته، وأثار ضجة إعلامية واسعة، حيث كان حينها شابا، لكنه حمل خبرة ورؤية لا يحملها إلا الكبار، مما لفت إليه الأنظار. فقال جورج مارسي عام 1947 وهو من أكبر المختصين في الفن الإسلامي إن الجزائر ببعثها للفن التصغيري (المنمنمات)، تعيد الخضرة والحياة لشجرة جافة”.

يتميز الفنان الكبير مصطفة أجاووت بعمق التأمل ورقة الإحساس وخفة الأنامل، يقدم أعمالا يراعي فيها الجمهور ويفجّر بداخله الدهشة والانبهار، وينقش في مخيلته أعماله كي تبقى راسخة، وتبقى هي المرجع الذي يؤسس عليه معارفه الفنية، لذلك لا يغامر ولا يدخل مسالك أخرى في الفن الحديث، كالتشكيلي مثلا، كي لا يتيه جمهوره، خاصة من لا يملك ثقافة فنية عالية، وهو يحاول بطريقة تدريجية أن يصل بالجمهور إلى مستويات عليا من الفن التشكيلي.

يعرض مصطفى أجاووت في هذا المقام الفني الكثير من أعماله وأعمال أبنائه الذين تشرّبوا المنمنمات منه، لذلك سمي المعرض بـ«الأب والأبناء”. كما يضم المعرض صورا فوتوغرافية لورشاته مع أبنائه، مع تقديمه لملصقات وبطاقات معارضه السابقة منذ السبعينيات، منها بطاقته الخاصة بمعرضه بدار الفن في بيروت سنة 1974.

يربط هذا الفنان بين المنمنمات والمحافظة على الهوية من تقاليد وعادات، وتظهر لوحاته في قمة الأبهة، ليظهر الرواق كأنه مهرب من أحد القصور الفخمة، حيث اللوحات مذهّبة الأطر والفاخرة في لمستها وفي محتواها المنوّع بين الطبيعة الخلابة والأماكن التاريخية منها القصبة، وهناك حيّز كبير لذكريات حرب التحرير، منها لوحة 8 ماي 1945” وفي اللوحة الأولى تظهر المحافظ المتطايرة والأحرف العربية والأسماء التي نالها الغدر، رغم ذلك تبقى الرايتان الجزائرية والتونسية ترفرف في شموخ.

نالت البورتريهات حظا كبيرا في المعرض، من ذلك صور الشهداء، وعلى رأسهم مولود فرعون، إلى جانب صور الفنانين، منهم باية، وهناك لوحة تختصر ذكريات الفنان المؤلمة،  وهي لوحة قبر الشهيد تصوّر أما تقف على قبر زوجها الشهيد مع صغارها ترحما عليه، وفي لوحة مقابلة تظهر أم أخرى مع صغارها في مغارة لتحتمي من قنابل الطائرات العسكرية.

لوحات كثيرة تعرض موضوع الأرض والفلاحة همزة الوصل مع الأجداد، تعكس سخاء أرض الجزائر الولادة للرجال والخيرات، ويصوّر في كل مرة المطامع المبيتة للنيل من هذه الأرض ويصوّرها في إحدى اللوحات بالأفعى.

مواضيع وتقنيات أخرى قدّمها الفنان، منها الرسم بالتزهير على لوحات السيراميك، وكذا أدوات الزينة وبعض الأثاث وغيرها، أبهرت الجمهور الجزائري والأجنبي، حيث صادف وجود المساء في المعرض وفد من الصينيين انبهروا بهذا الفن الذي يحمل عراقة الأمة الجزائرية، والذي لا يزال مطلوبا إلى اليوم.