وتستمر الرحلة...

من أبواب القصبة إلى أفق الصحراء... حوار الألوان بين كمال وماريا

من أبواب القصبة إلى أفق الصحراء... حوار الألوان بين كمال وماريا
  • 270
لطيفة داريب لطيفة داريب

داخل رواق محمد راسم بالجزائر العاصمة تتنفس الجدران حكايات أبواب القصبة. وتستعيد المدن ألوانها القديمة من خلال فرشاتين تنتميان إلى بيت واحد، لكنهما تكتبان لوحاتهما بلغتين بصريتين مختلفتين. الفنان كمال بلطرش وزوجته ماريا يجتمعان في معرض، اختارا له عنوان "وتستمر الرحلة" ؛ رحلة تقاطع الزمن والأمكنة، وتعيد رسم معالم تراث بصري، يكاد يَضيع في زحام النسيان.

كمال بلطرش الذي عُرف بمشاريعه الفنية ذات النفَس الطويل، عاد هذه المرة إلى قصبة الجزائر لكن من بابها الأجمل: أبوابها الخشبية. منذ أكثر من ثلاث سنوات وهو يجمع صوراً وملامح لأبوابها المميزة، التي مازالت تحرس الأزقة العتيقة، وحتى أبواب مدن أخرى مثل تيلملي.

وفي هذا قال لـ "المساء" : "عادة لا أضع عناوين للوحات، لكن هذه المرة أردت أن أعرّف الجمهور على أبواب القصبة. هي جزء من هويتنا. وحرفيو الخشب الذين صنعوها كانوا فنانين حقيقيين".

وتابع أن الصور التي اعتمد عليها التقطها في زمن الكوفيد، حين كانت القصبة خالية من المارة، وكأنها متحف مفتوح على صمت المدينة. 

هناك باب مفتوح قليلاً، وآخر مغلق بإحكام، لكن كمال اختار أن يبعد عن لوحاته آثار الخراب، ليبقي الصورة مشرقة، وليوجه رسالة ضمنية للسلطات وأصحاب البيوت: "الأبواب يمكن أن تعود كما كانت. والحرفيون موجودون لمن يريد الترميم".

وصمّم كمال على إكمال مشروعه في رسم الأبواب، الذي استغرق منه ثلاث سنوات ولم ينته منه بعد، خاصة أنه بصدد كتابة مؤلَّف حول سينوغرافيا ستوري بورد. كما رسم القصبة مستعملا تقنية الرسم الزيتي لأول مرة، بينما يعرض لوحتين في الفن التجريدي، وضع فيهما الكثير من الألوان، متحججا بأن الوقت يمكن أن يكون لونا، " ومن يدري فعلا شكل الوقت ياترى؟ ". 

كما رسم كمال لوحة طلبها منه الكاتب عز الدين ميهوبي، قد تكون غلاف روايته الجديدة؛ حيث طلب منه رسم شخص يدير ظهره ويجلس في مقهى طانطوفيل الشهير، بالقرب من المسرح الوطني الجزائري.

الأكوارال... الشعر الذي يُكتب بالماء

العودة إلى الأكوارال بالنسبة لكمال ليست مجرد اختيار تقني، بل استعادة لأول دروسه في المدرسة العليا للفنون الجميلة. 

في الأكوارال الخطأ ممنوع، والألوان تحتاج إلى ستة فُرشٍ على الأقل؛ حتى تبقى نقية كما هي. 

ويرى كمال أن الرسم بهذه التقنية هو الأقرب إلى الشعر؛ "سفر بصري" ، يمنح المشاهد فرصة التنقل بين الأمكنة دون مغادرة الرواق.

لكن المعرض لا يقتصر على الأبواب، ففي إحدى الزوايا نجد غرداية ثمرة صور التقطها الفنان في سنوات الثمانينات، وترجمها في لوحات ليعبّر بها عن انبهاره بهذه المدينة، التي تشع ألوانها بشكل ساحر فعلا.

ماريا... أنوثة اللون ونعومة التفاصيل

إلى جانب أعمال كمال، تعرض ماريا واتسوفا لوحاتها التي تتغنى بالصحراء الجزائرية، وبالأزياء التقليدية النسوية؛ من الحايك إلى لباس التوارق. 

كلاهما ينتمي إلى المدرسة نفسها، لكن الفرق واضح: ماريا تغرق في التفاصيل والنعومة، حتى في يد المرأة المرسومة، بينما كمال يميل إلى السرعة: "نحن نتكامل؛ لأننا من مدرسة واحدة".

وفي ثلاث لحظات زمنية: فجراً، وظهراً، وليلاً، رسمت ماريا عدة لوحات عن مسمكة الجزائر، متأثرة باللون الأورق للسماء، خاصة بعد يوم ماطر، وبعودة المراكب الى الميناء، وغيرهما من المشاهد التي أُعجبت بها ماريا جدا.

الفن حفظ للذاكرة

في أروقة المعرض لوحات صغيرة لماريا، تتحول، لاحقاً، إلى أعمال أكبر. وأخرى بيعت لكنها مازالت تحافظ على حضورها في الذاكرة البصرية للزائرين. 

وبالنسبة لكمال، الفن هنا ليس ترفاً، بل وسيلة لحماية الذاكرة من النسيان: "الكثير من الحرفيين لم ينقلوا مهاراتهم للشباب. واليوم، الفن التشكيلي يمكن أن يكون وسيلة لإعادة ربطهم بالتراث".

من دليل سياحي إلى حامي الأبواب

ذكريات كمال مع المدن الجزائرية تعود إلى الثمانينيات، حين عمل كدليل سياحي مع وزارة السياحة في فترة الصيف، حين كان طالبا بالمدرسة العليا للفنون الجميلة. 

تلك الرحلات صارت فيما بعد مخزوناً بصرياً يغذي أعماله. "بلدنا جميل ومتنوّع جغرافياً وتراثياً، وكل لوحة بالنسبة لي، هي محاولة لتقديم هذا الجمال للعالم"، يضيف الفنان.

دعوة لفتح الباب

"وتستمر الرحلة " ليس عنواناً عابراً، بل خلاصة تجربة فنية وشخصية، ودعوة لفتح الأبواب المغلقة أمام ذاكرة المدن الجزائرية. 

في كل لوحة هناك زمن آخر ينتظر من يقرأه، ولون آخر يعيد للحجر روحه. وبين الأكوارال والرسم الزيتي، وبين سرعة كمال ونعومة ماريا، يمضي المعرض كرحلة بصرية لا تنتهي؛ لأن الأبواب مهما أُغلقت، لا تفقد أبداً رغبتها في أن تُفتح.