سينما الإصغاء والعبور والصمت
ملامح جيل يتشكّل في تيميمون
- 168
مبعوثة "المساء" إلى تيميمون: نوال جاوت
كشفت الأفلام القصيرة الجزائرية الخمسة، المعروضة أوّل أمس، بقاعة السينما "مالك بن نبي"، عن مجموعة من السمات المشتركة أهمها تنوّع في اللغة البصرية والروحية. حضور قوي للصوت بوصفه عنصرًا حاكمًا للسرد مع انفتاح على التراث الموسيقي والطقوسي ناهيك عن أسئلة مقلقة حول الهوية، الذاكرة، الصمت، والمجهول. وكذا تبنّي جيل شاب لرؤية جمالية جديدة. وحملت أيضا تنوّعًا بصريًا وسرديًا لافتًا. وتأرجحت بين الحسيّ والرمزيّ، بين السينما القائمة على الصوت وتلك التي تستند إلى الروح والذاكرة والهوية.
"بوعلام سمع كلّش"، "ليلة"، "مفتاح صول" و"البرّية"، وكذا "المجهول"، هي الدفعة الأولى من الأفلام الجزائرية التي دخلت منافسة الأفلام القصيرة الوطنية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بتيميمون، تحت أعين لجنة التحكيم التي ترأسها المخرج مؤنس خمار، بعضوية حبيبة العلوي، مينة لشطر وبوعلام زياني، وكشفت عن ملامح جيل سينمائي يتقدّم بخطى ثابتة نحو ابتكار لغة جديدة للفيلم القصير الجزائري.
"بوعلام...سمع كلّش".. حين يصغي المكان
قدّم المخرجان خالد بوناب وعزيز بوكروني في "بوعلام..سمع كلش" (17 دقيقة- 2024)، تجربة سردية تستند إلى الإصغاء أكثر من المشاهدة. وأرادا تكريم وجه ظل مرادفا لسينماتيك الجزائر العاصمة لسنوات طويلة وكان حارسها الأمين، حيث عمل بوعلام بُوخوفان في قاعة السينماتيك الجزائرية من سنة 1972 إلى تقاعده في عام 2005، وظلّ مرتبطًا بشدّة بهذا الفضاء الرمزي في تاريخ السينما الوطنية. ورغم إعاقته السمعية، إلا أنّه جسّد بروحه وإخلاصه ذاكرة هذا المكان وأجياله المتعاقبة.
يستحضر هذا الفيلم الوثائقي علاقة بوعلام الخاصة بالسينماتيك، ويكرّم حضوره الدائم في ذاكرة الأشخاص والأمكنة التي مرّ بها، مثلما يتذكر بوعلام وهو يجول بصعوبة بين جدران السينماتيك العصر المزدهر للفن السابع الوطني، ويستذكر الزمن الماضي بكثير من الرمزية من خلال الصور الفوتوغرافية المعلّقة على الجدران ولفائف الأفلام، ويستمتع بفيلم "عطلة المفتش الطاهر" ومعه ترتسم الابتسامة على وجه بوعلام، ويحمله الحنين والشوق لزمن مضى وترك الأثر.
" ليلة".. موسيقى تعبر الروح
أما "ليلة" (10 دقائق- 2025) للمخرج عز الدين وهبي، فكان عبورا روحيّا عبر موسيقى الديوان، حيث يلتقي فيه الطقس الصوفي للديوان مع بناء سينمائي داخلي يجعل المتفرّج يختبر العبور نفسه الذي تعيشه الشخصية. وتنساب الكاميرا ببطء، مع ضوء خافت، وتتحوّل الموسيقى من خلفية صوتية إلى قوّة محرّكة للزمن الداخلي للفيلم الوثائقي.
يحثّ هذا الوثثائقي على التوغّل في العالم الصوفي العلاجي لممارسة الديـوان، وهي طقس عريق يجمع بين الكلمة والترنّح داخل فضاء مقدّس للشفاء. يستكشف، بحساسية كبيرة، الأبعاد المتعدّدة لهذه التقاليد المتوارثة منذ قرون. من خلال شهادات مؤثّرة، ولحظات من الوجد الصوفي، وتأمّلات شخصية، يكشف الفيلم عن الديـوان كمساحة للتحوّل، حيث تتحوّل المعاناة إلى حكمة. فهو عبور من ظلمة الحياة إلى بزوغ النور خلال "ليلة واحدة" تكون كافية للوصول إلى الحق من وجهات نظر مختلفة تترجم "الانتماء" عند "الخلاويين".
نغمة البقاء وإيقاع الرحيل وفق "مفتاح صول"
"مفتاح صول" (22 دقيقة- 2024) للمخرجة عالية لويزة بلعمري هو ثالث فيلم قصير تابعه الجمهور ، وتوقّف عند نقطة حساسة يعيشها جيل كامل من الشباب الجزائري "الصراع بين جذورٍ تضغط نحو البقاء وأفقٍ يلوّح بالرحيل"، من خلال حكاية وسيم، الموسيقي وعالم اللسانيات، الذي يقف أمام مفترق طرق "هل يظلّ الفن لغة انتماء، أم يتحوّل إلى جواز سفر لمغامرة جديدة؟".
الوثائقي هو قبل كل شيء رحلة بحث عن جذرٍ لا يُقطع، وعن عالم لا يُرفض. وعن لغة موسيقية تسعى إلى أن تكون وطنًا ثالثًا. وفي هذا قالت بلعمري خلال المناقشة إنّها أعجبت بتجربة العازف وسيم الذي حاول أن يمنح كلّ فترة من حياته، نوتة من نوتات السلم الموسيقي وأن يتقاسم مع المتفرجين ولو نزرا بسيطا من هواجسه ومخاوفه، فهو العاشق للجزائر وعاصمتها، يتأرجح بين الرغبة في الهجرة إلى السنغال وبين الرغبة الملحة في البقاء. وواصلت بالقول إنّ الجزائر خصبة بالمواهب، وغنية بالمواضيع، إذ نجد في كلّ ركن وفي كلّ زاوية حكاية يمكن استلهامها للسينما.
"لبريّة".. الكلمات بين الحضور والغياب
في نصّ حساس وعميق، تتقدّم "لبريّة" (20 دقيقة – 2025) لمراد قشود، بصوت داخلي لا يُسمع إلا على الورق؛ آخر أثر تركته غزلان قبل رحيلها. فاكتشافها لمرضها الخطير لم يكن انهيارًا جسديًا فقط، بل بداية صمت طويل اختارت أن تخفي به خوفها عن زوجها مليك.
تتقاطع الفلاش باكات بين ذاكرة مليك المفجوعة وصمت غزلان المتنامي، فنشهد حكاية حبّ تُقال بالغياب أكثر مما تُقال بالحضور. تبدو "لبريّة" كأنّها محاولة لحماية الحلم المشترك من قسوة الحقيقة، لكن الصمت يتحوّل في النهاية إلى ندبة. حين يعثر مليك على كناشتها الصغيرة بعد وفاتها، يتكشف له ما لم يُقَل، خوفها، هشاشتها، ولحظاتها الأخيرة التي كانت تنسحب فيها من الحياة بخطى هادئة..إنه فيلم عن الكلمات التي لم تُقَل والتي تغيّر كل شيء حين تُقرأ متأخرة.
الممثل فتحى النوري (جسد شخصية مليك)، تحدّث خلال النقاش، عن العمل مع المخرج مراد قشود في أوّل تجربة إخراجية له، وقال "اشتغلنا كثيرا على الفيلم، خاصة خلال فترة الكتابة، ووصلنا إلى مرحلة التنفيذ بتنظيم كبير، حيث كانت الأدوار مقسّمة" مؤكدا أن العمل مع قشود كان مريحا وكانت إدارته جيدة ومرنة.
"المجهول".. شقة صغيرة وتوتر كبير
آخر فيلم في فئة الأفلام القصيرة الجزائرية خلال اليوم الأوّل من مسابقة مهرجان تيميمون الدولي، كان "المجهول" (13 دقيقة-2023) لأحمد زيتوني الذي يقدّم توتّرا يتكثّف داخل غرفة واحدة، عملًا مشحونًا بالقلق والارتباك، قائمًا على أبسط العناصر: شقة صغيرة، هاتف مجهول، وفنانة تشكيلية تتسلل إليها الريبة تدريجيًا. فسليمة، التي تعثر صدفة على هاتف مهجور، تجد نفسها أمام سلسلة رسائل واتصالات تقلب يومها الهادئ إلى مساحة مهدّدة. الزمن يضيق، الأصوات تتضاعف، والجدران تقترب، فيتحوّل المكان إلى مرآة للخوف الداخلي.
عن الفيلم، قال أحمد زيتوني إنّه ترك "المجهول مجهولا"، فحتى هو لا يعرف "خالد"، مشيرا إلى أنّ الكثير من المشاهد أعيدت كتابتها في مرحلة ما بعد الإنتاج قصد التحكّم أفضل في بعض النقاط، وزاد أنّه يحبّ النهايات المفتوحة، وحاول في أوّل عمل إخراجي له أن يطبق ما عايشه وما مر به، قائلا "لا أعرف إن كان هناك جزء ثان من المجهول، لكن الأكيد أنّني أحب أن أرى عملي في أعين الآخرين".