محيي الدين سعيداني يعرض برواق عائشة حداد

مــــن كل روض لوحة

مــــن كل روض لوحة
  • القراءات: 955
مريم. ن مريم. ن
تتنفس أعمال الفنان محيي الدين سعيداني الحياة، لتحدّث الجمهور عن قيم راقية طبعت يوميات الجزائريين، وساهمت في تشكيل حياتهم ذات الهوية الخاصة التي ميزتهم عن غيرهم وضمنت لهم استمرار الحياة رغم هول ما عاشه الأجداد عبر التاريخ.
يحمل المعرض الذي تقام فعالياته حتى 16 أوت برواق عائشة حداد، عنوان ”التقاليد الجزائرية بين الأمس واليوم”، وهو يقدّم جانبا مهمّا من هذا التراث الجميل الموجود بمناطق مختلفة من الوطن أبدعتها عبقرية شعب يعيش على هذه الأرض منذ الأزل.
يُظهر المعرض مدى إعجاب وارتباط هذا الفنان بتقاليد بلده وقدرته الإبداعية على استنطاقها، لتحكي بنفسها عن تراثها المنوَّع الذي يشمل بلاد القبائل ومناطق التاسيلي والأهقار والعاصمة وقسنطينة والغرب الجزائري وغيرها، وهنا يتمكن هذا الفنان من كسر حاجز التقوقع والجهوية؛ إذ يرى أن على الفنان الجزائري أن يُلم بتراث بلاده من الحدود إلى الحدود، وأن لا يكتفي بتصوير منطقته؛ لأن ذلك سيحد لا محالة من أفقه، وسيحرمه من اكتشاف فضاءات إبداعية جديدة. بالنسبة للفنان محيي الدين فإن أصوله من بلاد القبائل، وُلد بالعاصمة، لكنه تمكن من تجاوز الانحصار في هاتين المنطقتين من الوطن، ليرسم الجزائر بكل ربوعها الواسعة.
بقدر ما يعشق الفنان محيي الدين التنوع بقدر ما يمقت الجهوية؛ فالجزائر عنده قارة ممتدة لا يليق حصرها في حيز ضيق.
يشتغل هذا الفنان المثقف والملتزم على الثراء الثقافي الجزائري الذي يتجسد خاصة في التراث والتقاليد العريقة التي لم تمتد إليها الأيادي العابثة، لتبقى الحصن المتين لحفظ الهوية والتاريخ.
تتزاحم في لوحات الفنان الألوان الصارخة والأضواء المشعة من جوف السماء، تظهر من خلالها مقامات الأولياء الصاحين والموانئ والقرى والأسواق التي تكاد تشتم رائحة التوابل منها، ليستحق بذلك محيي الدين أن يكون بحق رائد الأسلوب الشرقي (المدرسة الاستشراقية) بالجزائر في القرن 21.
من ضمن اللوحات المعروضة نجد مثلا ”ساحة السوق” بغرداية، التي تلتقي فيها أطياف الألوان الزاهية، ويطغى الأبيض على الفضاء العام للوحة، بتجسيد الأسلوب الانطباعي. كذلك الحال مع ”وصول العروس”، التي تصوّر الهودج وهو يسير في موكب الزفاف. وتوجد أيضا التقاليد الترقية التي استحضرتها ريشة الفنان بقوة من خلال ”رقصة الحرب” التي يؤديها الرجل الأزرق، توظَّف فيها الألوان الصاخبة، وعلى رأسها الأزرق القاتم، في حين تظهر الألوان المتدرجة والزخارف على الدروع، وتمتد أطياف هذه الألوان إلى الفضاءات الخلفية للوحات. ونفس التصاميم تظهر في ”الترقي في زي الحرب” بجانت، يركز فيها على ثوبه ذي الرموز والألوان الداكنة.
ظهرت قوافل التوارق أيضا في الرسم على الزجاج في غاية الإبداع، لتجسّد قدرات هذا الفنان في تشكيل الألوان ذات البيئة الصحراوية. وأكثر ما يظهر فيه الإبداع ألوان ملابس التوارق ونوعية قماشها ذات الخصوصية المحلية. هناك أيضا ”لقاء السادة بتمنراست”، يظهرون كالعمالقة وهم يتصافحون ويتبادلون الحكايا والحديث.
من أقصى الجنوب، يصعد محيي الدين إلى أقصى الشمال، وبالضبط إلى مدينة الجزائر؛ القصبة التي يتجول بها ”بائع الإسفنج” ينادي بصوته الرنان الذي يكاد يخترق جدار اللوحة، وبالتأكيد كان مسموعا من المارة؛ من أطفال ونساء، ليقف عند جلسة رجالية محاولا بيع ما يعرضه عليهم.
من خلال الأزقة الضيقة تحملنا إحدى اللوحات إلى ”حمام مريم” الذي تزوره سيدات وبنات القصبة، لتروي فيه القصص والأخبار، وتتفــنــن في إبداء محاسن التقاليد العاصمية التي تفوح بعطر الياسمين و«صابون الدزاير”.
يتراءى من لوحة أخرى المسجد الكبير بالعاصمة صامدا في كامل عافيته، يتحدى الزمن والغزاة، ويبدو وكأنه منتصب فوق صخرة، علما أن لا عمران يظهر مع المسجد. وقد استعمل الفنان الألوان الباهتة والأبيض المتدرج المائل إلى الاصفرار.
بجانب المسجد وفي لوحة مجاورة، تظهر الأميرالية حصن الشجاعة والبأس والذود عن الأرض والعرض، ينتصب فيها المسجد العتيق.وغير بعيد عن الجزائر العاصمة تظهر بلاد القبائل بكامل تراثها الذي لايزال بعضه ممارَسا إلى اليوم، ومنه لوحة تُظهر سيدة قبائلية بزيّها التقليدي، تدير مطحنة زيتون منصوبة وسط الطبيعة الخلابة، علما أن الفنان يعمد إلى إعطاء أفضلية الظهور للسيدة ومطحنتها على حساب الطبيعة، للتأكيد على أهمية هذا الموروث الأصيل.
في بلاد القبائل أيضا منطقة ”إغيل” بالبويرة، وهي قطعة من الجنة، بها نهر صغير، ترتمي على جنباته الأشجار المثمرة وبيوت القرميد المغروسة وسط البساتين الغنّاءة، وقبالتها جبال جرجرة البيضاء.
في لوحة ثانية هناك ”المنبع” الذي تتزاحم أمامه النسوة القبائليات وهن يمرحن ويملأن الجرار. وتظهر في اللوحة فساتينهن ”الجبات” مزركشة بنفس ألوان الطبيعة المحلية، وهكذا يمتد الحديث عن هذه المنطقة من خلال لوحات أخرى، منها لوحة ”أشجار التفاح”، التي هي جزء من خيرات وهبها الخالق سبحانه.
ينتقل الفنان بعدها إلى الغرب الجزائري، ليحط على سواحلها الفاتنة وموانئها الراسية منذ قرون رغم البحر الهائج أحيانا، ثم يسير في أرضها الممتدة المنبسطة حتى يصل إلى تيارت ويدخل ضريح ”سيدي معمر”، ويلقى شيخا طيبا يقوم على رعاية المكان والزوار وطلبة القرآن، ثم يدخل إلى البادية الجزائرية؛ حيث الحصان العربي الأصيل الذي يتباهى به الفرسان، والذي لا يطلبه إلا صاحب مال وشجاعة ومروءة.
يفتح الشرق الجزائري أبوابه من خلال بوابة قسنطينة بسيدي مسيد، الذي شهد مرور الغزاة وبقي يوصي أبناء الأرض بضرورة المحافظة على الذاكرة والهوية؛ كي لا يعود الغزاة مجددا.
للتذكير، فإن الفنان من مواليد 18 ماي 1947 بالعاصمة، متحصل على شهادة مهندس معماري منذ سنة 1969. وفي ذات السنة تحصّل على شهادة من مدرسة الفنون الجميلة. وفي سنة 1976 تحصّل على دبلوم في الفنون المطبعية من جنيف بسويسرا.
تحصّل على عدة جوائز وطنية ودولية، وذلك منذ 1969؛ أي منذ مشاركته في المهرجان الإفريقي بالجزائر، ثم بالعاصمة مونيخ. كما أقام معارضه بالجزائر وبالعديد من العواصم، منها باريس وبروكسل وبودابيست والمغرب وغيرها.