عشِق البحر وخلَّد المحروسة

مرزاق بقطاش.. قامة إبداعية تنطفئ

مرزاق بقطاش.. قامة إبداعية تنطفئ
  • القراءات: 652
نوال جاوت نوال جاوت

هو من دعا يوما إلى ”حمل الجزائر على الأعناق بالحب والعمل”. ومثلما ولع بالرسم والموسيقى، غاص في عالم الترجمة والفكر، وأَثّث المشهد الروائي الجزائري والعربي بأعمال متميزة، جعلته قامة بارزة، يتطلع الشغوفون بالرواية على أعماله الإبداعية. مرزاق بقطاش الذي ترجل والتحق بمن سبقوه من المبدعين والصدّيقين إلى دار الحق، كثيرا ما تحدّث عن طفولته بكثير من الحنين، ويستحضر عائلته التي تحترف البحر، وعن القصبة العتيقة وأزقتها، كما يغوص في السياسة وعالم الصحافة، وكذا عن الإبداع والترجمة، وعن أشياء أخرى تشعبت لتروي قصة ”خويا دحمان”، وما تركه الدهر على تقاسيم وجهه، وسكنت وجدانه لعقود من الزمن، وحفرت ملامحها في ذهنه.

في كل لقاء مع مرزاق بقطاش يستحضر الذكريات المفرحة منها والمحزنة، مبديا رأيه في مختلف الهزات السياسية التي عرفتها الجزائر، وما ميز فترات حكم مختلف الرؤساء الذين تداولوا على الحكم في الجزائر، ويقدم نظرته عن شتى الأجيال الأدبية منذ الاستقلال.

مرزاق بقطاش كان يعود إلى سنوات الطفولة واستقرار عائلته بالقصبة واحترافها البحر، وكذا التحاقه بمدرسة ”التهذيب”. ويقول إن البحر كثيرا ما يلهمه، ليس كمهنة، ولكن كان من حظه السفر عبر الورق، والارتحال في التاريخ والجغرافيا، قابعا في مكان واحد، زائرا ”سيدي بحرون”. وأضاف أنه قليل الكلام وانطوائي، بدأ القراءة منذ الصبا الأول، بداية بالقرآن الكريم والقصائد القديمة والكتب التراثية كـ ”ألف ليلة وليلة”، وبات شغوفا بالمطالعة التي باتت يومية. وأضاف أنه كان ينظم الشعر والنثر الجميل، كما ولع بالرسم والموسيقى؛ إذ غالبا ما يعزف الموسيقى الكلاسيكية، لكن غلبت الحروف الفنونَ الأخرى. وقال: ”بالكلمات نقول كل شيء، نسبح بالكلمات في اللغة والتاريخ والتراث، وبالرسم نقدم فكرة واحدة”.

صاحب ”طيور الظهيرة” كان يشير إلى أنه ولج عالم الصحافة بعد الاستقلال، وانتمى لشهرين إلى جريدة ”الشعب”، قبل أن يغادرها نحو وكالة الأنباء الجزائرية. وأضاف أن الترجمة عنده تزامنت مع الكتابة؛ حيث شرع في سبتمبر 1962 في ترجمة فصول من ”الأرض والدم” لمولود فرعون، مشيرا إلى أن العمل الصحفي جعله يحتك مع التراجمة ويتعلم منهم. كما تمعن في فن القصة القصيرة ومعمارها الفني، فتكوّن لديه كمّ معرفي في فن القصة والرواية، ليصدر عام 1976 ”طيور الظهيرة”، ثم ”جراد البحر”، لتتوالى الأعمال.

وأكد مؤلف ”أبجديات.. مقالات أدبية” الذي جاء في جزءين، أنه لم يتعرض طوال مسيرته الإبداعية، لأي رقابة، وعالج مواضيع لم يعترض عليها أحد. وأوضح أنه عاش فترة كان فيها معظم الكتّاب ضمن التيار الاشتراكي الوطني الواسع، وكان الانضمام إليه تلقائيا. وقال: ”كان بالإمكان ربح الوقت لو حدث الانفتاح في تلك الفترة، ولكنا تجنبنا الكثير من السقطات”.

وتوقف مرزاق بقطاش عند الموضوع الأدبي الكبير الذي لم نعالجه بعد، في نظره، وهو موضوع الثورة، الذي يشكل، بجد، موضوعا ساخنا؛ إذ يعتقد أن معالجة الثورة تشكل شهادة ميلادنا في العصر الحديث. ومكنتنا من أن نضع قدما راسخة في هذا العصر. وأضاف أن كتّابا على غرار فرعون ومعمري ووطار، كتبوا عن إرهاصاتها، ولكن الثورة كموضوع لم نعالجها؛ إذ هناك الكثير من الأمور التي لا بد من التطرق لها. ويضيف صاحب المجموعة القصصية ”آخر القعدات”، أن كل كاتب يحن إلى ماضيه؛ لأن فيه عنصري الشباب والفتوّة، ولكن بالنسبة له هذا الماضي القريب جزء من حياته، وجزء حميم من الجزائر، ويُعتبر شهادة ميلاد له وللجزائر؛ فهو من مواليد 1945، شهد الثورة وهي تندلع، وشهد الثورة وهي تنتزع الاستقلال، وبالتالي كان لا بد أن يعالج هذا الموضوع - الثورة - من زاوية طفل صغير، والحنين إلى الماضي مرتبط بالواقع الذي يعيشه.

كما أثنى مرزاق بقطاش على ملتقيات الفكر الإسلامي التي كان يشرف عليها الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم، وزير الشؤون الدينية الأسبق، حيث أوضح أنها كانت تتطرق للفقه والفكر والتاريخ؛ في خطوة صريحة لتثمين مكتسبات الجزائر حضارة ولغة ومذهبا، متأسفا عن فقدان كل هذه المحطات التي أنارت مسيرة الجزائر المستقلة، على غرار معاهد التعليم الأصلي. وقال: ”لا بد من التخلي عن حزازات الثورة، وتفادي الضغط السياسي والخوف”.

مرزاق بقطاش كان يعود بكثير من التأثر إلى سنوات الدم التي نخرت الجزائر؛ حيث أثّث الخوف يوميات الجزائريين في المدن والمداشر والقرى. كما كان يسرد حادثة محاولة اغتياله في 31 جويلية 1993 بالعين الباردة (وادي قريش)، وتبعات هذه العملية على أسرته، ونظرته إلى الحياة بالرغم من رفضه العنف، ومواصلته فعل الكتابة، معرجا على مكانة اللغة في عالمه؛ حيث أكد أن اللغة العربية هي وجدانه رغم وجود اللغة الأمازيغية، مشيرا إلى أنه لا يرى فرقا بينهما، بل هما مرتبطتان ارتباطا وثيقا وتلاحما كبيرا، مثلما كان يدعو إلى حمل الجزائر على الأعناق بالحب والعمل.