الكاتب الصحفي كمال بن يعيش لـ"المساء":

مذابح ماي 1945 لم تكشف بعد عن كل أسرارها

مذابح ماي 1945 لم تكشف بعد عن كل أسرارها
  • 128
حاورته: لطيفة داريب حاورته: لطيفة داريب

* 8 ماي 1945 تاريخ فارق في الوعي الوطني، ومع ذلك لا يزال مجهولا لدى عامة الناس.

* تسليط الضوء على مذبحة وقعت خلف الأبواب المغلقة بعد ساعات قليلة من إعلان نهاية الحرب تحديا حقيقيا.

* دون إرادة من جانب المستعمر السابق، سيظل أي بحث عن الحقيقة ناقصا.

* لا يزال عامة الناس، على جانبي البحر الأبيض المتوسط، غير مدركين للأحداث الأساسية التي وقعت في ذلك الثلاثاء الدامي.

قال الكاتب الصحفي كمال ين يعيش، في حواره مع "المساء"، إنه أراد أن تكون الطبعة الجديدة من كتابه "سطيف، المقبرة الجماعية. مجازر 8 ماي 1945"، شهادة وأرشيفا حيا وعملا للذكرى، تجاه أولئك الذين حاول التاريخ الاستعماري محوهم، في انتظار صدور كتاب ثالث، حول نفس الموضوع، مضيفا أن العديد من الجوانب الغامضة لمأساة 8 ماي 1945، تعد حقائق كثيرة لا تزال مدفونة تحت أنقاض الصمت.

❊ لماذا اخترتم تكريس كتابكم لهذا الحدث بالذات من تاريخ الجزائر، أي 8 ماي 1945؟

❊❊ يصادف تاريخ 8 ماي 1945 نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد احتُفل به كانتصار للحرية في أوروبا. لكن في الجزائر، يتخذ هذا التاريخ معنى مختلفا تماما.. معنى المأساة التي تم التعتيم عليها منذ فترة طويلة. إن التناقض الصارخ بين احتفالات عيد التحرير ومجزرة المدنيين، يرمز إلى غموض الخطاب الاستعماري، الاحتفال بنهاية الشمولية، بينما يخنق التطلع المشروع إلى الاستقلال لملايين الجزائريين. إن الهدف من وضع هذا الحدث في قلب الكتاب، هو تذكيرنا بأنها لم تكن مجرد "عثرة" في السردية الاستعمارية، بل كانت نقطة تحول تاريخية. لقد ساعدت صدمة 8 ماي 1945 على تطرف النخبة والجماهير الجزائرية، ما عجل باندلاع حرب التحرير بعد سنوات قليلة. كما لا يزال هذا الحدث علامة فارقة أساسية في الوعي الوطني، ومع ذلك، لا يزال مجهولا لدى عامة الناس، سواء في الجزائر أو في أماكن أخرى.

❊ قُدمت هذه الطبعة الثانية على أنها "منقحة ومصححة وموسعة بشكل كبير". ماذا أضفتم لها؟

❊❊ تهدف هذه الطبعة الجديدة لكتابي، إلى أن تكون شهادة وأرشيفاً حياً، وعملا للذكرى تجاه أولئك الذين حاول التاريخ الاستعماري محوهم. إنها خطوة كبيرة نحو استعادة الحقيقة التاريخية. هذا الكتاب هو ثمرة التزام شخصي عميق، ووفاء للأصوات المسكوت عنها، وواجب لنقلها إلى الأجيال القادمة. كان لا بد من التغلب على العديد من العقبات، وكان لا بد من تفكيك الروايات الرسمية المتحيزة، وكان لا بد من مواجهة الصمت المرهق. كل كلمة هنا تحمل ثقلها الخاص من الألم والحقيقة. تلبي هذه الطبعة الجديدة أيضا طلبا قويا، حيث أن النسخة الأولى التي نُشرت في عام 2016، قد نفذت الآن. والنسخة الجديدة تتضمن روايات جديدة لشهود عيان ووثائق لم تُنشر من قبل، بالإضافة إلى إعادة قراءة نقدية لبعض المصادر الاستعمارية، ما يوفر رؤية أكثر تفصيلًا ودقة.

❊ يكشف تحقيقكم عن ممارسات طالما تم التكتم عليها.. التعذيب، حالات الاختفاء، الاغتصاب... كيف تمكنتم من الوصول إلى الأرشيف؟

❊❊ تعتمد كتابة التاريخ على ركيزتين أساسيتين: روايات شهود العيان والأرشيف. يشكل الوصول إلى الأرشيف عقبة حقيقية، خاصة بالنسبة للباحث الجزائري المستقل، الذي لا يملك دعما مؤسسيا أو تمويلا. وتكمن العقبة الرئيسية في استمرار عدم إمكانية الوصول إلى بعض الأرشيف، التي يقارب عمرها 80 عامًا. على سبيل المثال، لا يزال الوصول إلى تقارير المفوض بيرجيه، الذي كان مسؤولاً عن التحقيق في أحداث سطيف وقالمة، غير متاح جزئيا. ولا يزال الوصول إلى الأرشيف العسكري الفرنسي شبه مستحيل، ناهيك عن أحكام المحاكم العسكرية. لكل هذه الأسباب أُصر على أن مذابح ماي 1945، لم تكشف بعد عن كل أسرارها.

❊ ما هي الشهادة أو الوثيقة التي تخص 8 ماي 1945، التي أثرت فيكم بشكل كبير؟

❊❊ من الصعب -بل من غير اللائق ـ تحديد الأولويات بالنسبة للآلام، فجميع الشهادات تحمل شحنة عاطفية مدمرة. لقد شحذ العمل في الميدان وعيي وفتح عيني ومكنني من جمع روايات لا تزال كتب التاريخ تتجاهلها. كيف يمكنك أن تظل متبلد الإحساس عندما تواجه آلاف الأيتام الغارقين في المآسي الشنيعة؟ كيف يمكننا أن نغض الطرف عندما نواجه عائلات سلبها الغزاة في الغارات التي قاموا بها؟ كيف يمكننا البقاء على الحياد في مواجهة إذلال قدامى المحاربين الجزائريين، الذين تجندوا لتحرير فرنسا لكنهم تُركوا لمصيرهم عند عودتهم؟.

بعض الشهادات ستطاردك إلى الأبد: شهادة ناجي رأى والده يعدم أمام عينيه، أو المرأة التي تتذكر اغتصاب أحد أقاربها على يد جنود الفيلق... هذه الروايات تجمد الدم في عروقنا، لكنها قبل كل شيء، ستجبرك على عدم النسيان.

❊ كصحفي، كيف يمكنكم التوفيق بين واجب التحقيق وواجب الذاكرة؟

❊❊ كان تسليط الضوء على هذه المذبحة، التي وقعت خلف الأبواب المغلقة، بعد ساعات قليلة من إعلان نهاية الحرب، تحديا حقيقيا. لقد مكنتني هذه المهمة الطويلة والشاقة من استعادة الأسماء والوجوه والمدافن التي صودرت من الذاكرة الجماعية. من خلال هذا البحث، كشفتُ عن آليات كانت حتى الآن غير ملحوظة، استنادا إلى وقائع تم التحقق منها بدقة، مع احترام معاناة الناجين. وقد أثنى على هذا العمل عدد من المتخصصين المشهورين، من بينهم جيلبير مينييه، وجيل مانسيرون، وحسني قيطوني، وحسان رمعون، وفؤاد سوفي، وعبد المجيد مرداسي، وآلان روسيو، وعيسى قادري، وأوليفييه لو كور غراندميزون، وعمار محند عامر..لا يتعلق الأمر فقط بكتابة التاريخ، بل بإعطاء صوت لأولئك الذين أُريد محوهم.

❊ اليوم، بعد مرور ما يقرب من 80 عاما، هل يمكننا أن نأمل في إعادة بناء أحداث ماي 1945 بشكل كامل وصادق؟

❊❊ تظل إعادة البناء الكامل لأحداث 8 ماي 1945 هدفًا بعيد المنال، نظرا لوجود العديد من النقاط الخفية. ومع ذلك، فهي ليست مستحيلة. ستسمح المراجعة الدقيقة للشهادات الشفهية والمكتوبة واستغلال الأرشيف المتاح والتحليل النقدي للمصادر، بإحراز تقدم نحو حقيقة تاريخية أكثر اكتمالا. ولكن يجب أن نتذكر أن التاريخ، لاسيما تاريخ الجرائم الاستعمارية، لا يُبنى في فراغ. كما أنه يعتمد أيضًا على إرادة سياسية واضحة من جانب فرنسا الرسمية، لفتح الأرشيف والاعتراف بالحقائق والسماح للباحثين بالوصول إلى الوثائق الحساسة بشكل تام. وبدون هذه الإرادة، من جانب المستعمر السابق، الذي لا يزال غير راغب في البحث في ماضيه الاستعماري، سيظل أي بحث عن الحقيقة ناقصا.

❊ لماذا تستعد لنشر كتاب ثالث حول نفس الموضوع؟

❊❊ لأن حجم مأساة 8 ماي 1945 لا يزال مجهولا إلى حد كبير. ما الذي نعرفه حقًا عن أكبر مذبحة ارتكبت خلف الأبواب المغلقة في يوم النصر؟، رغم أن العديد من المؤرخين والكتاب -الجزائريين والفرنسيين على حد سواء- مثل محفوظ قداش وبوسيف مخالد وعمار محند عامر ورضوان عيناد تابت وجان لوي بلانش وجان بيار بيرولو قد رفعوا الستار عن العديد من الحقائق، إلا أن الجزء المغمور من جبل الجليد لا يزال غير معروف. لا يزال عامة الناس، على جانبي البحر الأبيض المتوسط، غير مدركين للأحداث الأساسية التي وقعت في ذلك الثلاثاء الدامي. لم يتم إعادة بناء الحقائق بشكل كامل، ولا يزال التسلسل الزمني غير دقيق، ولم يتم بعد استكشاف العديد من الندوب. لا تزال العديد من الجوانب غامضة: المداهمات، وحالات الاختفاء، والاغتصاب، والتعذيب، والإعدامات بإجراءات موجزة، والشكاوى التي لم يتم تتبعها، وآلام اليتامى، ومسؤولية السلطات، والجدل الأبدي حول العدد الحقيقي للضحايا. حقائق كثيرة لا تزال مدفونة تحت أنقاض الصمت.