الكاتب المهندس رشدي برحمة لـ"المساء":
"مدينة في الظلام".. صوت للمنسيّين والمهمَّشين
- 93
في المجموعة القصصية "مدينة في الظلام" للكاتب المهندس رشدي برحمة الصادرة حديثا عن دار نشر "ليريف"، تتحول المدينة إلى مرآة لخيبات سكانها وصمتهم، وإلى صوت لمن يعيشون في الهامش. وفي هذا الحوار يكشف الكاتب لـ«المساء" كيف وازن بين القتامة والإنسانية، وكيف أصبحت المقاومة خيطا خفيا، يقود شخصياته نحو النجاة. كما نتعرّف، أيضا، على أثر خبراته المهنية، وشغفه بالسرد في تشكيل عالمه القصصي.
❊ يصف كتابك المدينة كشخصية مستقلة بذاتها، قمعية وساحرة في آن واحد. كيف عملت على هذه الأجواء الحضرية لتصبح مرآة لخيبات الأمل؟
❊ المدينة بالنسبة لي، ليست سوى ديكور... ولكن ليس دائما. في بعض النصوص، تظل مجرد مكان أو شاهد صامت على الأحداث. ولكن في العديد من نصوص "مدينة في الظلام" اخترت أن أعتبرها شخصية مستقلة بذاتها، فتصبح عندئذ متنفسا، حيّة، وأحيانا خانقة، قادرة على عكس مشاعر وتناقضات سكانها.
لقد راقبْتُ مدينة العفرون (البليدة) ـ وهي المدينة التي تدور فيها أحداث القصص الموجودة في المجموعة ـ باهتمام: أزقتها الصامتة، ومتاجرها التي تغلق أبوابها مبكرا، وسكانها الذين يبدو أنهم يسيرون بين الأمل والاستسلام. من خلال وصف هذه التفاصيل، أردتُ أن أُظهر أن المدينة نفسها يمكن أن تحمل الإحباطات، والتوقعات المخيبة للآمال، ولكن، أيضا، لحظات النعمة، والذكريات.أعتقد أن اعتبار المدينة شخصية حقيقية، يجعل رسائلها أقوى، ودروسها أكثر تأثيرا. فلم تعد مجرد ديكور: إنها تتصرف، وتتنفس، وتقدم شهادات. فالقارئ هنا يشعر بحيوية المدينة، وقدرتها على التأثير، والكشف عن حياة الناس فيها، وهو ما يجعل تجربة القراءة أعمق، وأكثر انغماسا.
❊ منحت صوتا لـ "الخفيين" من المهاجرين، والمحاربين القدامى، والصحفيين الذين تم إسكاتهم، والمشردين، والشباب الضائعين... ما الذي دفعك إلى التركيز في هذه المجموعة، على هذه القصص المهمشة؟
❊ لطالما أثرت فيَّ هذه الأصوات غير المرئية التي صادفتها في الشارع، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المحادثات. هناك شيء هشّ، ولكنه إنساني للغاية في وجودها. الكتابة عنها ليست عملا خيريا، بل عمل من أعمال التذكّر، والعدالة الرمزية. أردت أن أُظهر أن حتى أولئك الذين ينساهم المجتمع أو يتجاهلهم لديهم قصص تستحق الاهتمام. غالبا ما تكشف هامشيتهم عن مجتمعنا أكثر من حياة أولئك الذين يبدون في مركز كل شيء.
❊ قصص "مدينة في الظلام" تستكشف "الخصوصية" وتكشف "قسوة الحياة اليومية" . كيف تمكنت من التوفيق بين هذه القتامة والإنسانية التي تدافع عنها في كتاباتك؟
❊ الظلام والإنسانية لا ينفصلان. إظهار قساوة الحياة اليومية لا يعني الاستسلام للكآبة؛ على العكس؛ الكشف عن العنف والبؤس والظلم يمكن أن يُظهر نور الإنسانية. حتى في أكثر المواقف يأسا، تحافظ شخصياتي على لمسة حنان؛ كلمة تنقذ، فكرة تقاوم. الكتابة هي توازن: لا أريد إخفاء الظلام، ولكنني أريد، أيضا، أن يدرك القارئ قدرة الرجال والنساء على النجاة، ومساعدة بعضهم البعض، والحفاظ على قدر من الكرامة.
❊ تصف هذا الكتاب بـ "رحلة لا هوادة فيها إلى قلب اليأس والبقاء والمقاومة". ما مكانة المقاومة في قصصك القصيرة؟ هل هي شكل من أشكال الأمل، أم مجرد رد فعل للبقاء على قيد الحياة؟
❊ المقاومة في هذه القصص هي في الوقت نفسه، غريزية، وسياسية، حميمة وجماعية. وبالنسبة لبعض الشخصيات، المقاومة تعني ببساطة، الاستمرار في الوجود، والمشي، والتحدث على الرغم من التعب، والنسيان. وبالنسبة لآخرين، المقاومة تعني رفض الاستسلام للظلم أو السماح بتلاشي تاريخهم. هذا ليس تفاؤلا ساذجا: إنه شكل من أشكال الوعي النشط. المقاومة هي في الوقت نفسه، رد فعل للبقاء على قيد الحياة، وشرارة أمل؛ لأنها تثبت أن حتى في أكثر الظروف قسوة، يحتفظ الإنسان بحريته الداخلية.
❊ بصفتك مهندسا وكاتبا وقارئا شغوفا بالروايات البوليسية والأشرطة المرسومة، كيف أثرت خبراتك الشخصية والمهنية المختلفة على كتابة هذه المجموعة؟
❊ كل واحدة من هذه التجارب غذّت رؤيتي للعالم، والكتابة. بصفتي مهندسا، أراقب بدقة، وأرتب أفكاري، وأدوّن التفاصيل التي تضفي الحيوية على النص. علمتني الكتابة الأدبية كيفية التحليل، وفهم آليات كتابة القصص، وإدراك الفروق الدقيقة بين الشخصيات. أما شغفي بالروايات البوليسية والأشرطة المرسومة، فقد منحني حس الإيقاع، والتوّتر، والسرد البصري. وتتحد هذه التأثيرات لتخلق أسلوبا يمزج بين الملاحظة الدقيقة، والتعاطف مع الشخصيات، والروح السردية التي تسعى إلى جذب القارئ، وإثارة تفكيره في الوقت نفسه.