المساء» تدخل استوديو تسجيل شهادات الثورة بمتحف المجاهد

مدفع «الكرّوش» سليل «بابا مرزوق»

مدفع «الكرّوش» سليل «بابا مرزوق»
  • القراءات: 2222
مريم. ن مريم. ن

قدّمت مجموعة من المجاهدين أوّل أمس بمتحف «المجاهد» بالعاصمة، شهاداتها المتعلقة بحرب التحرير، في إطار عملية تسجيل شهادات عن الثورة بادر بها المتحف يومي الإثنين والخميس من كلّ أسبوع، قصد جمعها وأرشفتها ووضعها في متناول الباحثين والمؤرخين. تشهد العملية إقبالا واسعا من طرف المجاهدين الوافدين من كلّ المناطق، حرصا منهم على تأدية هذا الواجب وإيصال الأمانة للأجيال الصاعدة. من ضمن الذين حضروا هذا اللقاء الذي خصّص لموضوع «كيفية تنظيم مراكز إيواء جيش التحرير وتموينها في الثورة التحريرية»، المجاهد الكبير قادري خوجة مصطفى ابن القبة، الذي اخترع للثورة مدفعا فتاكا يحفظ الآن في المتحف وبقيت فرنسا تسأل عنه حتى بعد الاستقلال.

نشطت اللقاء الأستاذة ليلى ذهبي (رئيسة مصلحة الجمع والاسترجاع بالمتحف) التي كانت بين الحين والآخر تطرح أسئلة على الضيوف، ولم تكن الشهادات تتم في وقت واحد، وإنّما بالتداول. فعندما ينتهي الواحد يشرع الآخر في الشهادة، وتتم العملية داخل الأستوديو ويسجّل المعني صوتا وصورة (بوجود كاميرا تصوير)، وفور انتهاء أحدهم، يشير التقني أثناء حديثه للأستاذة ليلى بالفترة الزمنية التي استغرقتها الشهادة والتي غالبا ما لا تتجاوز بضع دقائق .

ما لاحظته «المساء» وهي تحضر في هذا الأستوديو، مدى الانسجام والتواضع الذي ساد بين هؤلاء المجاهدين الذين تمنوا أن تنتشر مشاعر الأخوة والمحبة التي تجمع جيلهم بين شباب اليوم، علما أنّ البعض منهم كانت تدمع عيونهم ولا يقدرون على الشهادة، لكن تشجيع زملائهم لهم تدفعهم للاستمرار.

بدأ عمي الهاشمي محمد أمقران من بئر مراد رايس بالشهادة، متحدّثا عن دور الشعب الأعزل عبر القرى التي عمل فيها كمحافظ سياسي بمنطقة القبائل، إذ رغم العوز والفقر التزم هؤلاء بالتكفل بجيش التحرير، وطبعا فإنّ ذلك كان يتم في مخاطر كبيرة، أما المجاهد محمد الحاج هني فقد جاء في شهادته أنه التحق بالثورة في بداية سنة 1959، حينها كان طالبا بثانوية الشلف (السلام حاليا)، واشتغل في منطقة الونشريس. وكانت عائلته مركزا للثورة وقد انطلق في الكفاح من المدن، والبداية كانت مع قريبه وزميله في الدراسة عبد القادر حلواجي، وعملا مع عبد القادر كلة المعروف بسي البشير الذي كان يحمل رتبة عسكرية من الحرب العالمية الثانية، ليستشهد بعدها في ساحة الشرف، حينها كان مساعدا للرائد طارق في الولاية الخامسة.

كوّن هذا المجاهد مع رفقائه، 3 خلايا للتمويل خاصة بالقمح والسكر والقهوة، وكانوا يجمعون المؤونة من الأسواق الشعبية ومن صغار التجار، ثم يحملونها على البغال إلى القرى والجبال قاصدين المراكز، وكانت العمليات تتبع بتقديم الحصيلة سواء بالنسبة للتموين أو الاشتراكات المالية، كما يتم أيضا التكفّل بإصلاح قطع السلاح عند الصناع الحرفيين، ثم تهرب في أكياس التبن.

بكى هذا المجاهد بحرقة عندما تذكّر ويلات تلك الأيام (بعض المواجهات مع العدو التي يسقط فيها الشهداء وتتشتت قوافل البغال)، وكيف كان خطر الموت يتهدّده ورفاقه الذين استشهد العديد متهم، وكانت التعليمات تؤكّد على ضرورة الانسحاب على البطن وهم يهرّبون مختلف المواد من خلال قوافل البغال التي تمشي ليلا عبر الطرق الملتوية والوديان الجارية والخطيرة والغابات، تفاديا لدوريات ومراكز التفتيش والتمشيط والمراقبة الفرنسية والحيوانات الخطيرة. كانت القوافل غير مسلحة ماعدا قائدها الذي لا يملك سوى مسدسا بـ9 طلقات على الأكثر، وكان الأمر صعبا في الشتاء، حيث يمنع من استعمال أية إضاءة، وكانت تستقبل من كبار القادة في النواحي والمناطق وكان منهم الشهيد بوقرة وجيلالي بونعامة.

كان المجاهدون ـ حسب المتحدّث - يدفنون هذه المواد في «مطامر» تحت الأرض، مع مراعاة عدم تلفها، خاصة في الشتاء، وهنا شرح كيف كان التزود بتلك المواد شحيحا، حيث وصل إلى حد أن الجندي لا يحصل إلا على حبة قهوة واحدة يضعها في فمه، كما كان مكان «المطامر» سريا حتى لا تنفذ المؤونة من فرط الجوع الذي كان يلاقيه هؤلاء. 

ذكريات أخرى عن مآسي الحصار والتقتيل والعمليات الكبرى التي جوبهت بالصبر والوحدة، وهنا ذكر تلاحم الجزائريين، فمثلا كان المسؤول يأتي من منطقة القبائل إلى الونشريس ويأمر ويطاع وكان يوجه وأحيانا يستشهد في ساحة الفداء.

من جهته، أكّد المجاهد طاطا محمد أنه عمل في الولاية الرابعة بالمنطقة الحرة في العاصمة، وبالضبط في حسين داي، حيث شارك في نقل بعض القنابل الموضوعة في بطاريات السيارات للتمويه، ليسجن من سنة 56 حتى الاستقلال، أما المجاهد علي دندوقة من الولاية الأولى الأوراس، فالتحق بالثورة سنة 58 بالناحية الرابعة المنطقة الثانية. وقد أكد أن المراكز إبان الثورة لم تكن ثابتة بل تتنقل باستمرار حتى لا تكتشف، خاصة أمام التعذيب الوحشي للمجاهدين. أما مراكز المستشفيات (منها مركز غابة بني ملول) فقد كانت أقل تنقلا وارتبطت في الأوراس بالدكتور الجراح محمود عثامنة ومحفوظ اسماعيلي، وكان الشعب يمول بالمؤونة والدواء وكانت الأمهات يحرمن أولادهن ليرسل الطعام لجيش التحرير.

المجاهد الموالي كان السيد بسعة امحند من الولاية 4، وهو من القبة، كان يسمى بموح الباش، وكان يعمل منذ 59 كمنسق خاصة بين المدية والعاصمة لنقل الوثائق، كما شارك في عمليات فدائية بالقبة وبالمنظر الجميل وحتى حسين داي و»فوبون سابقا» وحي مايا وغيرها، وبعد كلّ عملية يذهب كل فدائي إلى مركزه الخاص الذي لا يعرفه الآخر، وذكر بالمناسبة مراكز إيواء الفدائيين، علما أنه تنقل بعدها عبر مختلف السجون ليعمل بعد الاستقلال وحتى التقاعد بوزارة الاتصال والتقى كل وزراء الاتصال.

المفاجأة في هذا اللقاء كانت المجاهد قادري خوجة مصطفى من الولاية 4، وهو ابن القبة، عاش بعدها في بلوزاد، رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية بالبليدة والتحق بالثورة، وكان تقني آلات تخصّص بعدها في الاتصال السلكي واللاسلكي متمكّنا، سرعان ما تدرج في الثورة إلى أن وصل إلى قيادة الأركان، وبدأ العمل في القاعدة الشرقية مع محمدي السعيد، ثم التحق بتونس العاصمة وانضم إلى وزارة الداخلية مع لخضر بن طوبال بالحكومة المؤقتة ومساعده محمد حرّاق الذي وضعت أخته قنبلة ببرج إيفل بباريس.

يقول السيد قادري أنه تجوّل في كّل المناطق بتصريح أمضاه له الراحل كريم بلقاسم شخصيا، وازداد وزن هذا المجاهد عندما اخترع مدفعا سمي أثناء الثورة بـ»الكرّوش» (موجود حاليا بمتحف المجاهد) ويقول عنه «أنا أبوه الشرعي». وقد أرعب القوات الفرنسية نتيجة قوته المزلزلة واستعمل في المهام الثقيلة وكانت فوهته لوحدها بوزن 12 كغ، لذلك سمته فرنسا بالمدفع الكارثي،  خاصة عندما استعمل في القصف على الحدود. كما نجا منه الراحل بومدين وبومنجل والقايد أحمد في إحدى التجارب، بينما أصيب قادري ببعض الإصابات الخفيفة، وبقي هذا المدفع ذو سمعة تجاوزت الحدود. لذلك وبعد الاستقلال حينما زار الجنرال الراحل بلوصيف العاصمة الفرنسية، سألته بعض الأوساط الرسمية هناك عن سر هذا المدفع وقالوا «لم نجده ضمن قائمة السلاح لا الروسي ولا الصيني فمن أي البلاد هو؟ «فتبسم الراحل وأجابهم «هو الكرّوش الجزائري». 

كما قام هذا المجاهد بالإشراف على ترميم الأسلحة، وثمن الدعم الصيني بالسلاح الثقيل للثورة خاصة في سنواتها الأخيرة، ناهيك عن المهام العسكرية التي قام بها قادري بتكليف من بومدين. توقف المتحدث أيضا عند الذكريات الأليمة واستشهاد بعض الرفقاء وقطع الرؤوس، مما جعله لا يطيق رؤية الدم حتى اليوم، علما أنه من مواليد سنة 1936.