أمام غـياب المرافـق الثقافية بالبليدة
مثقفون محليون ما بين الاستهجان والتفاؤل
- 511
تشهد البليدة غيابا فاضحا للمرافق الثقافية إلى درجة الذهول؛ فكيف لمدينة بعلماء أجلاء ومثقفين مخضرمين، تنظم معظم نشاطاتها الثقافية في قاعات للحفلات، وأخرى بجهد جهيد من الفاعلين المدنيين؟ سؤال طرحناه على أساتذة من مدينة الورود، الذين تحدّثوا في الموضوع مع "المساء".
عبد القادر بوعقادة: الفعل الثقافي البليدي يحتاج إلى تنظيم شامل
يتساءل البعض عن إمكانية إعادة بعث الثقافة في منطقة البليدة في ظل غياب مرافق وهياكل حاضنة؟
ويجيب رئيس فريق بحث “الإنسان والعمران” بجامعة بليدة2، بأن الثقافة في مفهومها العميق، هي مجموع القيم التي تصدر من مجموع الأفراد الذين يكوّنون مجتمعا، لتطفو تلك الثقافة على مستوى الذهنيات والسلوكات والمعاملات، وجميع ما يفرزه فكر الفرد والمجتمع، والتي تتجسد عبر منتوج متنوع الأوجه والصيغ؛ كالأفكار، والألفاظ، واللباس، والمأكل، والمشرب، والمسكن، وجميع التعابير الصادرة عن الفرد والمجتمع.
وأضاف قائلا: "إذا أردنا اليوم النهوض بالثقافة البنّاءة بمدينتنا وبلدنا كثقافة تصون وحدتنا وتجمع كل رموزنا وعناصر هويتنا، فلا بدّ من توفير شروط داعمة وأسباب فاعلة، نلخّصها في ضرورة الالتفات إلى ثقافة المجتمع كما هي، بدون تغييب أو تحييد أو تضخيم صغير وتقليل كبير".
وتابع محدث "المساء" أن قاعات المسرح والمكتبات وفضاءات التعبير وورشات الفنون كلها تحقق الغاية من التثاقف. كما إن تخصيص ميزانية بحجم ثقافة المدينة سيقفز بها إلى أن تعبّر، فعلا، عن المجتمع، وأن تجلب انتباه الآخر، وتجعله يقبل عليها قراءة وتأثرا واستئناسا.
أما في الجانب التنظيمي فإن الفعل الثقافي البليدي يحتاج إلى تنظيم شامل من حيث تسطير الأهداف وتجميع الطاقات، وجعل الجمعيات القائمة عليها في أيدي ذوي الثقافة والنباهة، بعيدا عن الفوضى والاحتكار والمتطفلين على الفعل الثقافي بمدينتنا أو مجموع الوطن. ولا شك في أن العناية بالمثقف هي من صميم العناية بالثقافة والتراث؛ فردّ الاعتبار للمغيّبين المهمّشين وتشجيع الطاقات الفاعلة من علماء وفنانين، سيفتح آفاقا رحبة للفعل الثقافي بمدينتنا لا محالة، يشير بوعقادة.
محمد شريف سيدي موسى: هناك نقص لا انعدام
من جهته، أكد الدكتور وأستاذ التاريخ بجامعة البليدة2، محمد شريف سيدي موسى، عدم معاناة البليدة من غياب تام للمرافق الثقافية قائلا: "ولاية البليدة لا تعاني غياب المرافق الثقافية كلية؛ فهذا مخالف للواقع، وإنما هناك نقص في بعض المراكز التي قد تساهم أكثر في استمرار العمل الفكري، والثقافي، والعلمي، والتاريخي، والتراثي، وحتى الترفيهي".
وأضاف: “حتى لا نبخس الناس أشياءهم؛ فولاية البليدة بها جامعتان، وبها معاهد، ومراكز وطنية وجهوية متخصصة، ومؤسسات ناشئة، ودُور للنشر، ومكتبات، ومتاحف جوارية. وتحتوي أيضا على مكاتب للعديد من الجمعيات الثقافية والفكرية والإعلامية"، مشيرا إلى وضوح جهود الدولة في ترسيخ المشهد الثقافي والفكري والأكاديمي. ويمكن ملاحظة ذلك عبر بلديات الولاية، مطالبا بتثمين هذه المكتسبات.
كما أكد الدكتور أن السلطات المحلية تعمل على تدعيم هذا الدور، مشيرا إلى ضم البليدة رموزا فكرية، وأقطابا علمية، وشهداء ومجاهدين، ومثقفين ورياضيين وفنانين على مستويات محلية ووطنية ودولية، وكذا بتراث غنيّ وثري؛ لهذا تبقى في حاجة إلى تدعيمها ببعض المرافق التي يرى أنها ستزيد الساكنة والطبقة المثقفة إنتاجا وتألّقا؛ خدمة للجزائر، موضحا حاجة البليدة إلى قاعة محاضرات، ومكتبة عمومية، وقاعة مسرح، وسينما، ومتحف قد يجمع التراث والفن، ولم لا متحف للذاكرة الوطنية.
وأكد أن إنجاز هذه المرافق سيرجع بالنفع على ساكنتها وكذا متعلّميها ومثقفيها، وهم كثر المتعطشون للفكر والثقافة والتراث الجزائري العريق، يضيف سيدي موسى. وأكد المتحدث: "سنشهد استمرارا وازدهارا للحركة الثقافية؛ من ندوات وملتقيات وأيام دراسية متخصصة، وإنتاجا علميا متميزا ".
وفي هذا قال: "إنني على يقين من أن السلطات المحلية والمجتمع المدني حريصان على تغطية هذا النقص، والعمل من أجل الصالح العام، وترقية الثقافة والتاريخ الجزائري. وأعتقد أيضا أنه مع حل مشكل العقار الذي تعاني منه ولايتنا وبمساهمة الجميع، نصل إلى الهدف المنشود في ظل الجزائر الجديدة".
رابح خدوسي: إنعاش الثقافة يحتاج إلى تضافر الجميع
تأسّف الدكتور وصاحب دار نشر "الحضارة" رابح خدوسي، لافتقار البليدة صاحبة التاريخ العتيق ومدينة الفن والأدب والثقافة، للهياكل الثقافية، التي من مهامها احتضان الفعل الثقافي بصفة عامة، وأن تكون محطة انطلاق المبادرات، وإظهار الأفكار المنتجة والمبدعة.
وتابع: "للأسف، افتقار البليدة لهذه الهياكل الثقافية، أحدث معاناة كبيرة لمثقفي الولاية، وحتى لأصحاب المبادرات الثقافية"، وهو ما عاينه خلال تنظيمه العديد من النشاطات الثقافية، آخرها الملتقى الوطني "منطقة البليدة، علماء وأدباء عبر التاريخ" بجامعة البليدة1. وفي هذا قال: "عانينا، فعلا، في مسألة البحث عن فضاء يحتضن ملتقانا إلى درجة أننا كنا نتسوّل القاعات في قلب المدينة، ولم نحصل عليها".
وبالمقابل، أكد الكاتب أهمية أن لا تركن الجمعيات الثقافية ولا الفاعلون الثقافيون في صمت، وهو ما يحدث في البليدة؛ حيث العديد من الأطراف مثل جمعية "الذاكرة والتراث"، وجمعية الصحفيين والمراسلين، وبيت الشعر، وفرع اتحاد الكتّاب، وجمعيات أخرى كرحاب وأريج والمشاة، تنتج الفعل الثقافي رغم هذا الفقر في الوسائل. وأضاف قائلا: "نحاول قدر الاستطاعة تزيين المشهد البليدي بتنظيم تظاهرة ثقافية على الأقل؛ حتى نجعل من هذه المدينة ورودا يانعة ومزهرة في كل الأوقات، وهذا من خلال تضافر الجهود، وبإرادة تحمل الحس والوعي بأهمية الفعل الثقافي؛ حتى تحافظ البليدة على ألقها وروحها". "لكن إلى متى؟" يتساءل خدوسي.
ويضيف: “لقد تكلمت مع الكثير من المسؤولين حول هذه الندرة في الهياكل الثقافية سواء على المستوى المحلي؛ مثل النواب وحتى مع وزيرة الثقافة والفنون؛ جميعهم على علم بالموضوع"، مشيرا إلى أن المسؤولين كانوا يتعللون بغياب الأوعية لبناء المرافق الثقافية، إلا أنه سمع مؤخرا أنه تم إيجاد بعض القطع الأرضية في المدينة لتحقيق هذه الغاية، مؤكدا: "حتى لو تم بناء هذه الهياكل الثقافية، فإنها ستبقى بدون روح لو أننا لم نعتن بالإنسان".
سليمان جوادي: ضرورة توفير مرافق في مستوى إبداع البليديّين
أكد الشاعر ورئيس جمعية "بيت الشعر" الأستاذ سليمان جوادي، الانتعاش النسبي للواقع الثقافي في البليدة، خاصة في عاصمة الولاية رغم غياب تام للمرافق الثقافية بها. وأضاف أن عاصمة الورود خزّان الجزائر من حيث وفرة المطربين، والنوع الطربي الذي يقدمونه، حتى الفن العروبي موجود بها.
أما عن الأسماء الفنية المنحدرة منها فكبيرة فعلا؛ مثل عبد الرحمن عزيز، ورابح درياسة، وسلوى، وفريدة صابونجي، وغيرهم من عمالقة الفن الجزائري؛ سواء في الطرب، أو في التمثيل. والبليدة من أنجبت الشيخ محيي الدين وزوجته باية، علاوة على أسماء فنية أخرى؛ مثل نصر الدين البليدي، وبلغالي، وعدد كبير من المثقفين؛ كالدكتور عبد الحميد بورايو، وكذا علي ملاحي، وأحمد ختاوي، والدكتور رابح خدوسي.
وتحسّر جوادي على تنظيم الكثير من النشاطات الثقافية في قاعات الحفلات، ليعود ويعدد الناشطين الثقافيين في "الوريدة"؛ مثل جامعة البليدة2 (العفرون)، مضيفا أن مكتب بيت الشعر الجزائري استطاع تنظيم نشاطات بمقر جمعية الصحفيين والمراسلين لولاية البليدة، وغيرهم وجدوا أنفسهم مجبَرين على تنظيم نشاطات في أماكن متعددة في ظل غياب المرافق الثقافية تماما.
وأمام تنصيب مدير جديد لمديرية الثقافة في البليدة، تمنى جوادي أن يتم إيجاد جيوب عقارية لإقامة مرافق في مستوى هذه الولاية الكبيرة التي تزخر بالكثير من المواهب، مشددا على مهانة أن تكون هذه الولاية القريبة من الجزائر العاصمة والتي تُعد خزّانا مهمّا للجزائر، تشهد غياب مرافق ثقافية في مستوى إبداع أبنائها.
عمر برداوي: "ثغرة" أصبحت مظهرا من مظاهر العجز الثقافي
ذكر الدكتور بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة البليدة 2، عمر برداوي، ازدهار المدن وتطورها بمرافقها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ إذ تضطلع تلك المرافق بدور رائد في تيسير حياة الناس، وتأمين حاجاتهم المادية والفكرية، مضيفا أن مدينة البليدة واحدة من المدن الكبرى التي يقصدها كل الجزائريين من جميع ربوع الوطن؛ لما فيها من فرص التعلّم، والعمل، والتجارة والحياة، لكن اعتبر أن حظها من المرافق الثقافية ضئيل مقارنة بكثافتها السكانية، ومؤسساتها التعليمية والتكوينية، ونشاطها الاقتصادي الكبير.
وعدّد الدكتور المَرافق الثقافية الغائبة عن البليدة؛ من دار ثقافة، ومسرح، ومكتبة رئيسة للمطالعة العمومية، وهو الأمر الذي عطّل قطار الثقافة بصورة واضحة في هذه المدينة العريقة. وفي هذا قال: "نحن ندرك حاجة المجتمع والمدن الكبرى لتلك المرافق؛ باعتبارها الحاضنات الأساسية لتنشيط الفعل الثقافي، ومدّ جسور التواصل بين المبدعين والجمعيات الثقافية والناشطين الثقافيين من جهة، وعموم المواطنين من جهة أخرى".
ودعا برداوي أصحاب القرار إلى رأب هذا الصدع، وسدّ هذه الثغرة التي أصبحت مظهرا من مظاهر العجز الثقافي في مدينة تتنفّس ثقافة وفكرا وإبداعا؛ وذلك لأجل فتح نوافذ وأبواب هادفة، ومنابر نشيطة لتجسيد الفعل الثقافي في مدينة البليدة؛ ما يستهدف بالدرجة الأولى، شريحة واسعة من المواطنين الذين حالت ظروف الحياة دون مواصلة مسارهم العلمي، ولايزالون متعطشين للثقافة والمعرفة.
وأكد نائب رئيس بيت الشعر حاجتنا لتلك المنابر لتحقيق غايات أخرى؛ مثل عقد صلات القرابة، والتعاون بين المثقفين، وجمع شتاتهم، وإبراز إبداعات المواهب، والدفع بروح التنافس الإيجابي بينهم نحو المثل الأعلى؛ حتى يتم محاربة آفات الفراغ، والمشاكل الاجتماعية الكثيرة. واختتم قائلا: "كل ذلك من أجل الارتقاء بسلوك المواطنة والحصانة الثقافية، والدفاع عن الهوية، في عالم لا مكان فيه لمن ليس لديه المناعة الثقافية الصحيحة، إضافة إلى تقديم وجه حضاري ناصع براّق للمدينة، لا يقلّ نصاعة عن وجهها الاقتصادي النشيط".
حسين عبروس: الثقافة تحتاج إلى دعم قويّ من الوزارة
قال الكاتب والمتخصص في أدب الطفل، حسين عبروس لـ"المساء"، إنّ الثقافة في الجزائر عموما، تحتاج إلى من ينعشها معنويا أكثر منها ماديا. والثقافة في البليدة تحتاج، أيضا، إلى مرافق، وإلى من يسندها، ومن يقوم على خدمتها، مضيفا أنه لا يمكن أن نصنع ثقافة في مكان ما بدون إدارة وموقع معيّن تُنشط فيه. وتابع أن البليدة مثلا، تحتاج إلى مسرح جهوي مثل بقية الولايات، وإلى مرافق ثقافية متعددة كمركز ثقافي، ومكتبة رئيسة، تعين على صناعة جوّ من الثقافة، وهكذا طلب القاص من وزارة الثقافة والفنون الاهتمام بالمشهد الثقافي البليدي، لأن الثقافة تحتاج إلى دعم قوي من السلطات، ولا يمكن أيّ جمعية ثقافية كانت، أن تؤدي دورها بالكامل إلا بوجود مديرية قوية، وإمكانيات معتبرة.