المعهد العالي العربي للترجمة

مؤسّسة سيادية تبحث عن مجدها الضائع

مؤسّسة سيادية تبحث عن مجدها الضائع
مديرة المعـهد العالي العربي للترجمة السيدة إنعام بيوض
  • القراءات: 547
دليلة مالك دليلة مالك

ربما لمن لا يعرف، الجزائر تحوي على أهم صرح علمي خاص بالترجمة على المستوى الإقليمي والعربي، هو المعهد العالي العربي للترجمة، الذي تأسّس في 2005، تابع لجامعة الدول العربية، استقبل أوّل دفعة في 2006، ازدهر نشاطه لأكثر من عقد، ثم سرعان ما ضعف وهجه، رغم ما ينتجه سنويا من مترجمين في العديد من الاختصاصات ذوي كفاءة عالمية.

يستدعي الحديث عن تراجع وهج المعهد العالي العربي للترجمة، التنقّل إلى مقره، لذلك وبعد أن اتّفقت "المساء" مع السيدة إنعام بيوض مديرة المعهد على موعد، أخبرتني أنّ المقر متواجد داخل كلية الحقوق سابقا ببن عكنون في الجزائر العاصمة، وحسب معرفة سابقة فإنّ المعهد كان صرحه بمحاذاة مدرسة التجارة في تافورة بالعاصمة، لتؤكّد المديرة أنّ المعهد العالي العربي ينشط في مقره الـ12، فهو لا يجد مستقرا له.

مقر بلا واجهة

دخلنا كلية الحقوق بكلّ سهولة، باحثين عن مبنى عكاشة، لكن الأمر لم يكن يسيرا، مع أنّني أعرف الكلية سابقا بحكم دراستي فيها، غير أنّ هذا المبنى الذي حدّثتني عنه السيدة إنعام بيوض لم أعرفه، ثمّ عوّلت على بعض الإشارات أو اللافتات، فلم أجد ولا علامة تفيد بمكان هذا المبنى، إلا بعد ما دلني إليه رجل يرجح أن يكون عاملا في الكلية. وصف الرجل للمكان كان بسيطا، أن آخذ أقصى اليمين مباشرة، في اتّجاه يبدو غامضا، الأكيد أنّه لا يوحي بمكان معهد أو حتى قسم دراسة، وقد مرّرت على أكوام من بقايا أشغال وأوراق تشبه ملفات، بصراحة المعهد العالي العربي للترجمة لا يناسبه هذا المقر ولو مؤقتا، ذلك لأنّه يستقبل في الغالب سفراء دول وشخصيات لهم قدرهم من الاحترام، حسبما أدلت به السيدة إنعام بيوض لـ"المساء".

في هذا الشأن، قالت مديرة المعـهد العالي العربي للترجمة إن المقر الحالي "تفضّلت به وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ومتواجد في نهاية الحرم الجامعي في مبنى عكاشة، الذي لم يستغل قرابة الـ20 سنة، وقد اضطررنا للقيام بتصليحات كثيرة، على مستوى الأسطح خاصة، وزجاج النوافذ". وأضافت الآن نحاول أن نسيّر المعهد بعد أن انتقلنا في عزّ الموسم الدراسي 2021-2022، وكان يجب أن نهيئ قاعات الدروس، والمكاتب لاستقبال الطلبة، عسى أن يكون الأمر مؤقتا، إلى حين أن نجد مكانا نهائيا يعفينا من الترحال، فالأمر يقتضي أشهرا في الجمع والحزم والنقل، ثم ترتيب وتصفيف الكتب، كل هذا يحتاج إلى جهد. ومن ميزانية المعهد، بمعنى أنّنا نصلح للآخرين، وكل هذه المصاريف ترهق المعهد"، وقالت "نتمنى من وزارة التعليم العالي أن تعوضنا لأنها سوف تبقى لمحتضني هذا الفضاء لاحقا".

المعهد كمؤسّسة دولية، يجب أن يكون له مقر أبوابه مفتوحة على الخارج، تكون له واجهة مميزة، تظهر فيه يافطة المعهد بوضوح حتى يكون الوصول إليه متاحا، حيث يواجه الطلبة صعوبة للوصول إليه لهذا السبب. ومن المفروض أيضا أن يكون هناك حرس دائم، ولا يشترك مع آخرين في البناء، حيث أشارت المديرة ففي هذا المبنى نحن متواجدون في الطابق الأوّل، وتتواجد في الطابق الأرضي جمعيات طلابية، وهذا غير معقول، وبالتالي نواجه مشكلا يتعلّق بنقص القاعات"، تقول المديرة "إذ نتوفر على ثلاث فقط، تستقبل 150 طالب، فنضطر إلى عملية إعادة التفويج حتى نوفّر الدروس للجميع".

ننتظر الفرج من الخارجية     

وأكّدت المتحدّثة "صحيح أنّ المؤسّسة تابعة لجامعة الدول العربية، لكنّها في الجزائر، التي ووضعت كلّ ثقلها الدبلوماسي ليكون في الجزائر، وبالفعل على مستوى وزارة الشؤون الخارجية والجالية الجزائرية بالخارج، تتواجد خلية تعمل على حلّ انشغالات المعهد المتعلّقة في المقام الأوّل بالمقر، على الأقل إيجاد مقر مناسب مؤقت إلى حين أن يجهز المقر المخصّص للمعهد في الحي الدبلوماسي في عين الله غربي العاصمة، وهو مقر ممتاز، ولأنّ المعهد لا يملك الإمكانيات للبناء والتشييد، تنتظر هذه الأرضية منذ عشر سنوات". وتابعت السيدة بيوض "راسلنا الجامعة العربية، وهناك كمّ هائل من المراسلات، لكلّ الهيئات المعنية، لإيجاد حلّ للمقر، وبخصوص تسديد حصص الدول لدينا ملفات طويلة، ونحن نقوم بما في وسعنا من أجل الخروج، لكن لا تكون هناك ردود ملموسة، وتعطّلنا أشياء أهم من المعهد، الذي يعدّ مؤسسة تشكّل قصة نجاح".

مصنع للمترجمين بمستوى دولي

وعن أهمية المعهد، قالت إنعام بيوض، "إنه مؤسّسة لتدريب مترجمين على مستوى عال، وفعلا كنا من أفضل مراكز الترجمة على المستوى العربي، لأنّني زرت جامعات عربية كثيرة وأعرف المستويات الموجودة هناك، لا نرمي أنفسنا بالورود، لكن فعلا خريج المعهد العالي العربي للترجمة يملك مستوى يرقى للمستويات الدولية، وكان همّنا الوحيد في ظلّ كلّ الصعوبات التي واجهتنا، أن لا نتخلى عن المستوى الأكاديمي والعلمي".

وأضافت المديرة "يشتغل المعهد أيضا على إنتاج الترجمة وليس المترجمين فقط، وقمنا ببرامج كثيرة للترجمة لصالح الجامعة العربية، وزارة الشؤون الخارجية، وكذا الرئاسة، وترجمنا للمجلس الدستوري (المحكمة الدستورية حاليا)، ولجائزة الملك فيصل في السعودية كتابا بـ650 صفحة، وقد أرسلوا لنا رسالة شكر على جودة الترجمة وأهميتها، وترجمنا ضمن تظاهرة "الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007، أكثر من 120 كتاب من لغات مختلفة كالإنجليزية الفرنسية والأمازيغية إلى العربية، ولم تأتنا ردود بأنّ هذه الترجمات سيئة، مشيرة إلى اتّباع منهج متميّز في هذه الترجمات، فبعد الترجمة تمرّ النصوص على مصحّح، ثم مراجع محتوى، بعدها تعاد للمترجم لتدارك الأخطاء، وأخيرا يراجعها مصحّح لغوي. وتقول "حقا العملية تتطلّب وقتا طويلا، لكنها أعطتنا خبرة وزادتنا إحساسا بمسؤولية الكتاب المترجم".

واسترسلت السيدة بيوض "هذا المعهد يمكن أيضا أن يكون معهدا لتعليم اللغات، فنحن مدرسة متخصّصة في تعليم اللغات، لما كنا في المقر السابق في تافورة، حيث كنا ندرّس الفرنسية والانجليزية والتركية والإسبانية، ونقدّم أيضا دروسا بالعربية للأجانب وأحيانا بطلب من الأمم المتحدة، لكن حاليا المقر لا يسمح بالتدريس". وتابعت "هذا الأمر لا يستهان به، كنا المدرسة الوحيدة التي تدرس بأسعار متواضعة في هذا المجال لأنّ همنا هو أن ننشر اللغات.. أنا أحلم بأن يكون الجزائريون متعددي اللغات، بلابل في اللغات".

وأشارت إلى أنّ هذه الترجمات لها مردود مالي، لكن في الوقت الراهن لا يمكن الاشتغال على ترجمات، فالوضع يفتقر للعديد من الشروط اللازمة، على غرار المكاتب، وحتى أنّ المعهد ليس مربوطا بشبكة انترنت، وأوضحت لو شاهدتم المقر قبل هذه الأشغال لتصورتم حجم العمل الذي قام به الفريق العامل معي، كلّهم نكران للذات، ويشتغلون لساعات متأخرّة، لم أكن لأفعل شيئا دونهم، قدّموا خدمة كبيرة دون مقابل، وأجورهم متأخّرة حوالي سبعة أشهر".

الدول العربية لا تدفع حصصها لميزانية المعهد

ميزانية المعهد تأتي على شكل حصص من الدول، من المفروض تصل موازنة المعهد إلى 2 مليون دولار في العام، فمثلا الجزائر تمنح 8 بالمائة، والسعودية 14 بالمائة، ليبيا 14 بالمائة، لكن المشكل أنّ الدول لا تدفع حصصها، وهناك من لم يدفع مطلقا مثل المغرب ولبنان، ودفعت تونس ومصر مرة واحدة، في ظرف 16 سنة، ثم هناك قطر والإمارات كانا يدفعان لعدد من السنوات ثم توقفا، ليبيا والعراق كانتا أيضا من الدافعين، سوريا قبل الحرب كانت تدفع بصورة منتظمة، وهناك دول متحفّظة على فكرة إنشاء المعهد أساسا مثل الكويت، والسعودية تدفع نصف الحصة، وحاليا تدفع ربع حصتها. وأوضحت بيوض أنّه في ميزانية 2021- 2022، دفعت الجزائر فقط حصتها، والسعودية بربع حصتها فقط، وهو لا شيء مقابل مصاريف المعهد، وعلينا دفع أجور الأساتذة المتعاقدين وباقي العمال على حساب الأساتذة الدائمين، حتى يستمر المعهد.

وواصلت المديرة حديثها عن قصة نجاح المعهد بلغة فخر واعتزاز "تحصّلنا على جائزة من جامعة طليطلة للترجمة كأفضل مؤسّسة ترجمة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وهذه الجامعة المتواجدة في اسبانيا من أعرق الجامعات منذ القرون الوسطى التي تشتغل على الترجمة. ولدينا اتفاقيات مع جامعات في العديد من الدول، كجامعة شنغهاي ببيكين واتفاقية مع جامعة باريس 3، جامعة أليكانت، ومع جامعات في سوريا ومصر، ولبنان، وكل هذه الاتفاقيات مفعّلة، كان هناك تبادل للأساتذة، ثم تعود بلغة الحسرة لتقول "إنّه حاليا من غير الممكن إبرام اتفاقيات مماثلة، أين ستأتي الناس؟ حتى أنّني لا أستطيع دعوة السفراء، لا يمكنني أن أمرّرهم إلى هذا المقر، لكنّني متأكّدة من نية الفريق العامل بوزارة الشؤون الخارجية، قمت بزيارتهم مرتين وشاهدت حماسهم وهذا شيء يجب أن يذكر".

المعهد ملك لسيادة الجزائر والكلّ معني بوضعه

وتؤكّد السيدة إنعام بيوض أنّ هذا المعهد ملك للسيادة الجزائرية ويمثّل صورة الجزائر في الخارج، خاصة وأنّه يعمل وينتج، ومن شأن كلّ الوزارات دعمه، ليس الخارجية فقط أو التعليم العالي، الكثير من المعاهد التابعة لجامعة الدول العربية ليس لها مشكل في التمويل، غير أنّ المعهد العالي العربي للترجمة الموجود في الجزائر يعمل وينتج، بلا تمويل للأسف. "كمديرة للمعهد قمت في السنوات الأخيرة بعملية إنعاش ومن المفروض أن لا نصل إلى هذا الوضع، ويبقى همنا أن نقدّم لهذا البلد، وباقي الدول العربية..الأفضل، وتابعت أنّه مع الوضع الوبائي بسبب كورونا، قلّ عدد الطلبة العرب، مؤكّدة ننتج مترجمين جزائريين يخرجون بعد نهاية الدراسة لسوق العمل مباشرة، ودائما في مسابقات التوظيف ينجح الأوّل والثاني وهما من خريجي المعهد.