كتاب ”سوائح وارتسامات عابر سبيل”

لقطات من ذاكرة أدب الرحلة

لقطات من ذاكرة أدب الرحلة
  • القراءات: 1221
مريم. ن مريم. ن
تنطلق الرحلة لتخاطب عقل القارئ ووجدانه وتفيده وتمتعه، هي رحلة إلى بولونيا قام بها الأديب محمد الصالح رمضان سنة 1955 مع وفد من الكشافة الإسلامية وجعل منها نموذجا نثريا وشعريا راقيا تألّق من خلالها فكرا وأسلوبا نسجته صلته بالناس والطبيعة وبصور الحياة المشعة بشرا وأملا تنهض من خراب الحرب.
جرت الرحلة التي صدرت عن المجلس الأعلى للغة العربية تحت عنوان ”سوانح وارتسمات عابر سبيل”، ضمن فعاليات مهرجان الشباب والطلاب العالمي بفرصوفيا سنة 1955 وتركت في نفس المؤلف أثرا بالغا في وقت كانت فيه الجزائر لا تزال تعيش تحت وطأة الاستعمار، وقسّم الكاتب رحلته إلى ثلاثة أقسام هي ”الرحلة إلى بولونيا”، ”فرصوفيا مدينة المهرجان” و«من وحي الرحلة”.
في القسم الأوّل، شرع الكاتب في وصف السفر بحرا ثم برا من مدينة الجزائر وصولا إلى بولونيا ليكتشف أنّ البحر المتوسط حاجز طبيعي وفاصل تاريخي وجغرافي بين الجزائر الثائرة المجاهدة يومئذ وفرنسا الاستعمارية لكن الأرض الأوروبية تاريخا وطبيعة وأنماط حياة سرعان ما تشرع تمارس هيمنتها وسحرها في فكر الكاتب وعاطفته ابتداء من الساحل اللازوردي الفرنسي مرورا بالريفيرا الإيطالية وقوفا بالبندقية الساحرة على شاطئ الأدرياتيك وطبيعة الحياة في كل من فيينا بالنمسا وبراغ في تشيكوسلوفاكيا وحتى بولونيا حيث حط في عاصمتها لمدة 15 يوما بلياليها ليعيش أجواء المهرجان الشبابي الطلابي الدولي الذي حضره 31 ألف مشارك من مختلف الدول والشعوب.
آثر الكاتب في نهاية هذا القسم الأوّل من الرحلة أن يتحدّث عن العودة ومسارها ليجمع بين طرفي السفر ذهابا وإيابا مؤجّلا تفاصيل انطباعاته عن فرصوفيا ومهرجانها إلى القسم الثاني حيث ذكر خط الرحلة من بولونيا إلى تشيكوسلوفاكيا فالنمسا فسويسرا التي خصّها بحديث تاريخي وجغرافي ممتع ليتحدّث بعدها عن مدينة ليون ومارسيليا للعودة إلى الجزائر جوا.
أمّا القسم الثاني ”فرصوفيا مدينة المهرجان” فقد افتتحه الكاتب بنبذة تاريخية عن فكرة المهرجان التي ظهرت في لندن سنة 1947 ثم ينصرف إلى وصف أجواء المهرجان بفرصوفيا في طبعته الخامسة الذي حوّلها إلى عاصمة عالمية للشباب مع حضور مميز للشباب الجزائري القادم من وطن يلتهب ومشبّع بذاكرة الدم أقربها ذاكرة حوادث ماي 1945 التي لم تكن مفصولة في جوهرها عن مجازر طاغية بروسيا إبان الحرب العالمية ومجازر هتلر وغيرها.
في هذا الجو الزاخر كان الكاتب وصديقه الحفناوي هالي يهيمان في جمال الطبيعة والبشر وصور الأمل وقد توفّرت عناصر بهجة تزيل كدرا وتمنح دفئا وسلاما، فمثلا يذكر الكاتب زيارته إلى حديقة الحيوان الكبرى على ضفاف نهر الفستول، وتحدّث الكاتب في هذا القسم أيضا عن الأرض والإنسان في واقع جديد بعد حرب مدمّرة ليسجّل انطباعات غزيرة ومختلفة بلغة الرحالة لا بلغة المؤرّخين أو علماء الاجتماع ومن ذلك مثلا حديثه عن قصر الثقافة العملاق من دون إسقاط للصور البشعة التي تقتحم الذاكرة من خلال حمامات الدم المرتكبة عبر الزمن لذا سرعان ما تتراجع الصور المبهجة في فقرات هذا القسم حين تغمرها الذكرى بصور الجرائم الاستعمارية منها جرائم الاحتلال الفرنسي.
يتوّج الكاتب رحلته بقسم ثالث عنوانه ”من وحي الرحلة”، جاء في شكل تعقيب وتعليق عن تواريخ وقضايا ومواقف من خلال قصيدتين طويلتين تجاوزتا المائة بيت الأولى بعنوان ”فرصوفيا المحطمّة” صوّر فيها أحاسيسه ومشاعره من ألوان الدمار الشامل فيها إبان الحرب العالمية الثانية وصوّر فيها أيضا المدينة الجديدة الناهضة من الدمار.
القصيدة الثانية عنوانها ”شيخ من صحراء الجزائر في مهرجان بوارسو” تحدّث فيها عن صديقه هالي الذي هام بفتاتين من المنطقة ليزعم الكاتب أنه اخترع جهازا يقيس به مشاعر رفيقه الولهان، علما أنّ القصيدة ذات لغة موحية بمضمون إنساني راقي بـ 102 بيت .
للإشارة، فإنّ منهج الكاتب تميّز بطابع فني أدبي وازن فيه بين الجانب العلمي التثقيفي وبين أسلوب الرحالة الحديث الحريص على تسجيل المشاعر والانطباعات دون تقيد، كما عبّرت هذه الرحلة عن تجربة إنسانية ذات عمق مختلف الأبعاد ورغم توفّر المعلومات العلمية (جغرافية، تاريخية، اجتماعية، اقتصادية وثقافية) فإنّ ذلك لم يجعل من النصوص فقرات تاريخية جافة فاقدة للظلال الإنسانية.
تبقى الرحلة معلما من معالم الرحلة الجزائرية الحديثة في القرن العشرين لم يعلن صاحبها انبهارا تاما بحضارة ولا دعوة إلى مذهب وإن أشاد بقيم الجد والعمل، كما حرص على تصوير واقع بلدان تحرّرت حديثا وهو يتوق لأن تكون الجزائر في طريقها للحرية ويسجّل الكاتب أيضا صور الجمال والخير والقيم الإنسانية النبيلة التي لم تستطع آلة الحرب والدمار سحقها.
تضمّن الكتاب صورا تذكارية للرحلة منها صورا شخصية وأخرى لبعض المعالم التاريخية والنصب المخلدة للأحداث التاريخية وصور لعمليات إعادة الإعمار ومحو آثار الدمار.
للتذكير، فإنّ المؤلف من مواليد القنطرة سنة 1914 التحق بالجامع الأخضر ليتتلمذ على يد ابن باديس في سنة 1934 بعدها تقلّد مهام ومسؤوليات في جمعية العلماء المسلمين ومع اندلاع الثورة انخرط في صفوف جبهة التحرير الوطني بالعاصمة ليصبح إطارا ساميا في اللجنة المركزية، وبعد الاستقلال تقلّد عدّة مسؤوليات سامية لكنه في الأخير فضّل العودة للتعليم ثم أصبح مستشارا في عدة قطاعات وللعديد من الوزراء وكرم في الثمانينيات من قبل رئيس الجمهورية.
للكاتب عدّة مؤلفات منها مسرحية ”الناشئة المهاجرة”، ”ألحان الفتوة” شعرا، ”العقائد الإسلامية لابن باديس”، ”شهيد الكلمة رضا حوحو”، ”المولد النبوي الشريف” تمثيلية و«ديوان الأمير عبد القادر” وغيرها ويطبع في العديد من الدول العربية منها مصر، لبنان والإمارات كما للمؤلّف مساهمات في الصحافة الجزائرية والعربية.