الأستاذة بغياني في محاضرة افتراضية

كورونا درسٌ لكل البشرية

كورونا درسٌ لكل البشرية
فايزة بغياني
  • القراءات: 1443
لطيفة داريب لطيفة داريب

ألقت الأستاذة الجامعية والباحثة المتخصصة في الفلسفة الغربية، فايزة بغياني، محاضرة افتراضية بعنوان الجائحة والعودة إلى الذات؛ بحثا عن الإنسان، وهذا في إطار احتفاء جمعية منيرفا باليوم العالمي للفلسفة، تحت شعار الفلسفة في زمن الجائحة.

قالت الأستاذة فايزة بغياني إنه في خضم التحولات التي عرفها العالم في الفترة الأخيرة، تعالج في مداخلتها هذه، قضايا التغيير الحاسمة في زمن الرعب والمخاوف، مضيفة أنه منذ زمن ليس بالبعيد، أطل علينا فيروس كورونا، ليذكرنا بأن مصيرنا هو مصير مشترك، فقد قامت بما عجز عنه فلاسفة الأنوار ورواد العولمة عن فعله؛ لما وحّدت سلوكنا، لتكرس نوعا من العدالة، وهي عدالة تقاسم الخوف والخطر والتهديد والألم؛ فنحن أمامها متساوين بغض النظر عن جنسنا ولوننا وديننا، وعليه تساءلت الأستاذة: هل هو مراجعة نقدية لذواتنا لتتأسس من جديد ضمن أفق مفاهيم كونية من قبيل المسؤولية وأخلاقيات العيش المشترك وآداب الضيافة وقبول المختلف؟ وهل يمكن أن نستعيد هويتنا الصحية أمام هذه اللعنة البيولوجية؟ وهل يمكن أن تزهر الإنسانية فينا من جديد؟ وقالت إنها حاولت الإجابة عن عدد من الأسئلة من خلال التوقف عند ثلاث لحظات، وهي كورونا الحرب الخرساء، و”من التمركز في العالم إلى التركز في المنزل، و”محاولة استعادة إنسانيتنا ضمن أفق لقاء إيتيقي وجها لوجه بدون كمامة.

كورونا الحرب الخرساء

وشرعت الأستاذة في تحليل اللحظة الأولى فقالت إن فيروس كورونا حرب خرساء أو حرب عالمية ثالثة، غير أن العدو هنا أكثر دهاء ومكرا وحيلة؛ فهو لا مرئي، يمر بيننا بذكاء ودهاء ليدمر مناعتنا ويقضي علينا، مؤكدة في السياق، أن فن الحرب هنا ليس المجابهة والمواجهة، بل العودة إلى المنزل شعار البشرية ككل، ربما نتيجة استغلالنا واغتصابنا الطبيعة جاء هذا الوحش الذي يهدد بالتهام ملايين البشر، ومن ثم رُمينا في هوة العدم السحيقة. وأضافت: إذا كان بعض الفلاسفة أمثال أدغار موران وجوديث بتلر ونعوم تشومسكي وكذلك ألان باديو وسلافواي جيجيك، قرأوا فيروس كورونا كأزمة حضارة ورأسمالية، فإنها تقرأه أيضا كأزمة تمركز، وبعبارة أوضح، تمركز حول الذات.

من التمركز في العالم إلى التركّز في المنزل

وانتقلت المحاضرة إلى اللحظة الثانية التي تمحورت حول من التمركز في العالم إلى التركز في المنزل، وهنا قالت: من دون شك أحدثت هذه الجائحة هزة هائلة غيرت خارطة العالم على عدة مستويات، دفعتنا إلى مراجعة ذواتنا وبيئتنا ونظامنا الصحي والغذائي، وحتى السياسي والاجتماعي، مضيفة: البقاء في المنزل صار شعار البشرية ككل، لنلغي علاقتنا بالفضاء العمومي، وحياتنا اليومية، ومجتمعنا، ونتعلم فن البقاء في المنزل. وتساءلت: ألم تكن الوحدة فضيلة المتصوفين، ومتعة الوجوديين، وشغف المفكرين الأرستقراطيين، وعالم المرضى نفسيا من المتوحدين؟  لقد نقلتنا الوحدة في زمن الجائحة من التمركز إلى التركز؛ ما مكّننا من الغوص في البركة العميقة لأنفسنا، لنتعلم، كالأطفال، مهارة الاستبطان، ونتعرف على أخطائنا، لننقدها (نقدا ذاتيا)، فنحيا تجربة التحضر من جديد بعدما أدركنا قيمة ما ضيّعناه. وتوقفت بغياني عند هذه النقطة، لتؤكد أنها تقصد قيمة الحياة؛ كل من العالم، والأرض، والهواء، والسماء، والبحر، والطبيعة التي صرنا نخاف العيش في كنفها، كذلك ندرك قيمة العلاقات مع الأصدقاء وزملاء العمل والأقارب، الذين صرنا لا نستطيع حتى لمسهم أو معانقتهم، إنها ذات جديدة منزلية، معتبرة أن الآخر هنا غير مرحب به؛ فهو ممنوع من دخول بيتنا؛ لأنه ناقل وبائي يهددنا بالفناء لما يحطم مناعتنا، ويمزق خلايا أجسادنا. وقالت الأستاذة إننا أمام فوبيا الهوية الصحية ضد الغرباء؛ إذ تدربنا على الكينونة مع القريب؛ أي أفراد العائلة، ومع أنفسنا، لنقود ذواتنا بعد التركز نحو غايات اتيقية استطيقية، نتحمل فيها مسؤولية تعمير الأرض، لتزهر إنسانيتنا من جديد؛ فالبيت ورشة لمراجعة الذات لتحقيق التناغم والانسجام، والنرفانا بلغة القدماء. كما ذكرت في زمن الجائحة تُفرض ضرورة الانعزال ومراجعة الذات نفسها، مع ضرورة الاعتراف العالمي بضرورة التضامن والبحث عن طرق لتحقيق السلم على كل الأصعدة، مؤكدة أن هذا الفيروس أجبرنا على التفكير في قضايا المساواة والتعاون؛ فهو لا يمارس التمييز أو الاختزال أو الاقصاء، بل يسوي بيننا، ليضعنا أمام نفس الخطر، لنهلع من الغريب، ونسرع في إغلاق الحدود. وتابعت: للأسف الشديد وكما أكدت جوديث بتلر، هنالك خوف ظهور من يسعى للربح على حساب معاناة الآخر، ليشهد عن ولادة ثانية للعنصرية والنرجسية المرتبطة بالإنسان الأبيض ضد الآخر؛ فالرأسمالية تتقن جيدا إنتاج نفسها من جديد في ظل الوباء، ليتمتع الأغنياء بأمن صحي عندما يحصلون على اللقاح، أما الأخر فيبقى عرضة لمواجهة خطر الموت.

استعادة إنسانيتنا

أما اللحظة الثالثة فهي محاولة استعادة إنسانيتنا ضمن أفق لقاء إيتيقي وجها لوجه بدون كمامة. وفي هذا قالت إن إنسان اليوم يسعى لحفظ بقائه بوضع كمامة على وجهه، الذي هو أساس كل مواجهة. وأضافت أن الوجه اليوم غير متكشف؛ فهو مغطى بكمامة، وقد كان عريه وتجليه هو مصدر كل مسؤولية وحقيقة عند لفيناس، على خلاف زمننا الحاضر، الذي أصبح فيه عدم تغطية الوجه تعبيرا عن عدم المسؤولية، وتغطيته مسؤولية أخلاقية وقانونية، يفرضها القانون المجتمعي أخلاقيا وسياسيا وصحيا. وإذا كان لفيناس يرى لزومية الانفتاح على الآخر سابقا فاليوم صار يجب الخوف من الآخر الناقل الوبائي للعدوى.

وفي ختام محاضرتها ذكرت المحاضرة أن كورونا كانت درسا لكل البشرية،  أدركنا من خلالها أن ما يهم هو الإنسان والأهم هو أن نبحث عن الإنساني الكامن داخل كل واحد فينا؛ فهي تحدٍّ لننجو معا، لنجعل من العالم أرضية خصبة لممارسة آداب الضيافة وأخلاقيات العيش المشترك، لننجز مشروع الإنسان الذي ينبني عبر الزمن، وعبر مختلف مراحل الحياة، إنه الإنسان الذي ينحته الألم، وتقومه الإيتيقا (فلسفة الأخلاق)، ويصقله الإيمان، وتهذبه الاستطيقا، وتحفظه الصحة، ويكمله النظام الغذائي.