واسيني الأعرج يكتب في صحيفة "القدس العربي"

كورونا: البشرية أمام امتحان الموت الوبائي

كورونا: البشرية أمام امتحان الموت الوبائي
واسيني الأعرج
  • القراءات: 510
❊   نقلا عن صحيفة "القدس" ❊ نقلا عن صحيفة "القدس"

كثيرة هي الأحداث التي هزت العالم في النصف قرن الأخير، فأربكت الجمـيع، وشككتهم في قدراتهم الداخلية، وهزت نظمهم الحياتية التي استقروا عليها بوصفها نماذج مطلقة يجب أن تُحتَذى وتَعَمم على البشرية، فيها يتجلى التضامن الإنساني في أنبل صوره، أو يترسخ ما يحكم البشرية من أنانيات ضيقة، لا تساهم في حل الإشكال بقدر ما تعمد التبريرات المقيتة.

فيروس "COVID-19" وانتشاره بشكل مرعب، ضيعت البشرية فيه البوصلة، أثبت هشاشة كل النظم التي اعتمدتها البشرية حتى الآن ولم يبق منها إلا الجوهر: الأنانية الضيقة أمام الخطر الداهم.

ما يثير الانتباه اليوم، هو مواجهة الصين لفيروس كورونا الوبائي، وحدها، مع أن حدا أدنى من التعاطف الإنساني الفعلي، كان يمكن أن يفيد في تجاوز هذه المأساة في لحظتها الأولى. فقد ظلت الصين وحيدة، منذ شهر ديسمبر، في مجابهة وباء غير مسبوق فيروس كورونا.

لم تحرك البشرية العظيمة ساكنا، وهي التي تدافع جيدا كلما تعلق الأمر بحقوق الإنسان كما رتبتها هي، من خلال جمعياتها المنتشرة عبر العالم. وتشتغل تحت مجهر القوى العظمى، ولا تعرف كيف تدافع عن حق الإنسان في الحياة قبل حقه في الديمقراطية التي هي حتما أكثر من ضرورة.

لم تحرك لا دولة صديقة ولا غيرها أصبعها الصغير عندما كان الفيروس في بداياته، وكأن الضرر بعيد عنها ولن يصيب إلا الصين وحدها، ويبقى الفيروس حبيسا هناك، في تلك الأرض البعيدة، حيث لا أحد غير الصينيين، ونسي الجميع أو تناسوا أن الفيروس كان قد سكن في مطاعمنا ولباسنا وأكلنا وشربنا وهواتفنا الذكية، وطائراتنا وأجهزتنا البيتية، وحتى أدويتنا.

كل العيون أصيبت بالعمى الكلي والأنانية الكبيرة، مع أن قليلا من العقل كان يفرض النظر سلفا للمسألة بوصفها مأساة عالمية تضع الإنسانية في حالة اختبارية هي الأولى من نوعها، وأن الصين لم تكن إلا نموذجيا تجريبا في النهاية، واختبارية لعمق وترسخ هذه الإنسانية.

أي تناقض هذا؟ في عالم حديث أصبح قرية صغيرة، كما يقول شطار السياسة والاقتصاد والتجارة العالمية، ليس فقط في مجال السلع والتبادلات التجارية والمناطق الحرة، لكن أيضا، أصبح مساحة صغيرة في انتقال الأمراض والأوبئة التي لا تعرف الحدود الجغرافية. وهذا ما لم يتنبه إليه تجار العالم الذين صنعوا حدودهم للاغتناء والمال، ونسوا الباقي. وبدل مد يد المساعدة للصين دفاعا أيضا عن وجودهم أمام خطر داهم، راحوا يتشفون في الصين ويذكرون بدكتاتوريتها، بدل التركيز أولا على ما هو صحي؟ في انتشاء كلي ببدء غرق التنين الصاعد بقوة، ونسوا أن فيروس "COVID-19" كان قد احتل العالم كله.

كان يمكن للعرب أن يعطوا المثل في هذا السياق، بوصفهم معنيين بالدرجة الأولى بهذا الوضع الصحي الخطير، بالمساعدة ماليا على الأقل، مادامت المخابر العربية عاجزة عن تقديم أي شيء مفيد، من أجل إيجاد لقاح يحمي البشرية من فيروس كورونا.

استمر منطق التفكير البدائي والانتقامي، لدرجة أن أصبح نمطا من التفكير وردة الفعل. ظن الغرب المالي الاستعماري الجديد مرتاحا في عمومه، ظنا منه أنه بعيد عن فيروس شبيه بالسراس، لكنه ليس هو، لم يسمع به أحد من العلماء عبر العالم من قبل، الذين أدركوا منذ اللحظة الأولى، على عكس الساسة، أن الخطر حقيقي، وقد يكون مدمرا للعنصر البشري.

بعد إيران، انتشر الوباء بقوة في إيطاليا، قبل أن يعم أوروبا كلها. وبدا كأن إيطاليا تحت غزو قاتل، وعليها أن تحمي نفسها بنفسها بعد أن نسيها إخوة الاتحاد الأوروبي. كثيرون لاموها عندما وضعت الشمال كله، احترازيا، تحت الحجر من أجل السيطرة على انتشار الفيروس، كما سبق أن فعلت الصين التي سخر منها الإعلام الغربي، كيف لنظام دكتاتوري أن يسجن شعب يوهان (15 مليون تقريبا) ويحرمه من حريته؟ ليتضح لاحقا أن ذلك كان أفضل حل ممكن للحفاظ على حياة الناس بالحد من الانتشار.

واجهت إيطاليا مصيرها التراجيدي، وما تزال، وحدها، على الرغم من نداءات الاستغاثة التي استجاب لها الاتحاد الأوروبي بمزيد من الحصار والطرش وغلق الحدود، وكأن الجغرافيا تقي من فيروس لا يعترف بأية حدود، والالتفات نحو أنانيات الذات العامة أو الخاصة. فيروس كورونا هدم بناية الاتحاد الأوروبي التي أصبحت لا شيء في أول امتحان جدي لها. حتى عندما طلبت إيطاليا الكمامات الواقية والألبسة الخاصة، وأجهزة التنفس الاصطناعي التي دفعت بنقابة الأطباء الإيطاليين إلى الإعلان، أنه لم يعد في إمكانها إنقاذ كل المرضى في الحالات الخطيرة، وأنها ستعطي الأولوية للمصابين الأقرب إلى الشفاء، لأنها لا تملك ما تقدمه لهم، لفداحة النقص في المعدات، فجأة بدا الاتحاد الأوروبي متخلفا كما كل الاتحادات العالمية والعربية، مجرد قواقع فارغة من أية حياة مشتركة، إذ أصبحت كل دولة تفكر في نفسها بأنانية غير مسبوقة، وكأنه لا اتحاد أوروبي، ولا تضامن، ولا تقاليد اقتصادية وتعاونية مشتركة.

ربما كانت فرنسا في هذا السياق، البلد الوحيد، التي رافعت من خلال رئيسها، من أجل خطة أوروبية حقيقية لمجابهة المرض وعدم غلق حدودها الجغرافية مع إيطاليا. بينما انكفأت النمسا وإيرلندا وبلجيكا وبقية الدول الأوروبية على نفسها، وتبعتهم أمريكا بحصار قاتل ضد الجميع، بتوقيف الطيران من وإلى أوروبا، لأنها مركز الفيروس القاتل، مستغلة الوضع الصحي لأوروبا المصابة ليس فقط بفيروس كورونا، لكن أيضا بوباء الأنانية، لتذلها من جديد وتنقص من قيمتها.

كانت الخطوة الأمريكية هي الخطوة القاصمة للظهر التي أظهرت الضعف التضامني الأوروبي القاتل، وبينت أن الغطرسة الأمريكية تجير كل شيء لصالحها بعيدا عن كل تضامن إنساني. في تلك اللحظة، لم تعد أوروبا تعني لها أي شيء، كما لم تظهر أي تعاطف إنساني مع بقية العالم. الصين كانت هي البلد الوحيد الذي مد يده إلى إيطاليا بأطباء متخصصين في مقاومة فيروس كورونا، كانوا في يوهان، وبالمعدات الطبية وأجهزة التنفس الاصطناعي التي تحتاجها المستشفيات في حالات الرعاية المشددة. العالم العربي، في هذا الوضع الصعب، قصة أعقد، لا تضامن ولا استباق ولا تنسيق مخبري، ولا اعتراف حقيقي بالإصابات أو بالفيروس الذي تم اكتشافه عند الأوروبيين العائدين من السياحة في البلاد العربية.