روح صاحب الكمنجة البيضاء ترفرف عاليا
كمال بناني يُوقّع لحظة وفاء بمسرح "مجوبي"

- 279

في ليلة ساحرة احتضنها المسرح الجهوي "عز الدين مجوبي" بعنابة، في ختام جولة أوبرا الجزائر "بوعلام بسايح" عبر شرق البلاد، لم يكن العرض كلاسيكيا أنيقا، بل لحظة إنسانية وفنية مؤثرة، اختزلت فيها مدينة عنابة ذاكرتها حين صعد ابنها الفنان كمال بناني، إلى خشبة المسرح، ليُوقّع بأدائه الرائع، رسالة وفاء لصوتٍ لا يُنسى.. والده، الفنان الراحل حمدي بناني، أسطورة المالوف، وصاحب "الكمنجة البيضاء".
دخل كمال بناني السهرة من بوابة الإحساس، لا من باب الاسم فقط. صوته لم يكن محاكاةً لما تركه والده، بل كان امتدادا أصيلًا له، محمّلًا بنفس الشجن والعذوبة، ولكن أيضا بروحٍ جديدة تصالح بين الأوبرا والمالوف، بين العالمية والهوية.
واعتلى المسرح وسط تصفيقات حارة، لم تكن فقط إعجابا، بل اعترافا ضمنيا بعمق الرابطة التي تجمع عنابة بابنها، الذي لم يخُن إرث والده، بل طوّره على طريقته. وأدّى باقة من الأعمال الغنائية التي راوحت بين الكلاسيكي الراقي والطابع المحلي، في مزيج موسيقي متوازن، أثبت من خلاله أنّ الفن لا يموت حين يُورَّث عن حب، بل يتجدّد حين يُعاش بإيمان.
وما زاد السهرة عمقاً ذلك الحضور الرمزي الطاغي لاسم حمدي بناني في خلفية كلّ نغمة. لم يكن حمدي حاضرا جسدا، لكن "الكمنجة البيضاء" عزفت كما لو أنّها كانت تصغي لصدى صوت الابن، وتبتسم له من خلف الستار.
كمال لم يتكلم كثيرا لكنه غنّى، وغنّى كثيراً؛ وكأنّ كلّ نغمة كانت صلاة فنية لروح والده، ورسالة حبّ للمدينة التي أحبتهما معاً. الأغاني التي أداها استحضرت روح المالوف بأسلوب عصري راقٍ، فلامست جمهور الأوبرا وعشّاق الأصالة معاً.
ولم يكن غريبا أن يحبس بعض الحاضرين دموعهم، خاصة من أبناء عنابة الذين شبّوا على صوت حمدي. وها هم يرون اليوم ابنه يحمل المشعل لا عبر التقليد، بل بالتجديد الصادق.
وشكّل هذا الأداء ذروة إنسانية وفنية في ختام جولة أوبرا الجزائر، التي تنقّلت من برج بوعريريج، إلى قسنطينة، لتتوَّج بمدينة عنابة، المدينة التي عرفت كيف تحتفي بفنها، وتكرّم رجالها، وتحتضن أبناءها.
العرض بأكمله كان تحفة فنية متكاملة: أوركسترا أنيقة، رقص كلاسيكي رفيع، توليفات من الأوبرا العالمية، كلّها اجتمعت لتشكّل خلفية راقية لحضور بناني، الذي خطف القلوب بصوته وإحساسه، لا بضوء الاسم وحده.
كمال بناني لم يأتِ ليقف في ظلّ والده، بل جاء ليقول: "أنا ابن هذا الفن، وحامله إلى الأجيال القادمة". جاء ليصالح جمهور الأوبرا مع التراث الجزائري، ويُعطي المالوفَ بعدا جديدا، تعزفه الكمنجة البيضاء… حتى في صمتها.
وفي النهاية، لم يكن الحفل مجرد ختام لجولة فنية، بل إعلاناً رمزياً أن روح حمدي بناني ماتزال تغني في عنابة، بصوت ابنه، وبمحبة جمهورٍ لا ينسى.