معرض جماعي بمقر "سوق الفلاح" بشارع فولتا

كليشيهات نموذجية من يوميات البسطاء

كليشيهات نموذجية من يوميات البسطاء
  • القراءات: 868
مريم. ن مريم. ن

تقاسمت مجموعة من الفنانين لقطات إبداع مميزة، عكست التجربة والنضج الفكري والخصوصية الجزائرية الميّالة في عمقها  إلى الجمال، حتى ولو كان في بيئة يسكنها البؤس، وحرصوا على مخاطبة العين والفكر أكثر من أي شيء آخر، لذلك نجد لكل فنان موضوعه الذي خاض فيه تماما، كما لو أنه تقرير مصور عن واقع اجتماعي ما. افتتحت هذا الأسبوع بالجزائر العاصمة فعاليات الطبعة الثالثة لمعرض جماعي شارك فيه قرابة عشرين فنانا تشكيليا ومصورا وناحتا جزائريا، بمقر سوق الفلاح سابقا،  بشارع فولتا في الجزائر الوسطى، وعكست اللوحات مدى تمكّن هؤلاء من مخاطبة الجمهور فنيا ودون أي توجيه أو فرض لفكرة ما مبنية على الخطاب المباشر، سواء تعلّق الأمر بشؤون المرأة أو بظاهرة الاستهلاك الجنوني أو التوسع العمراني، وغيرها من الأمور التي تطبع يوميات الجزائريين.

من بين العارضين؛ الفنان مراد كريناح الذي تناول القضية الفلسطينية وجسّدها في امرأة ملثّمة بالوشاح الفلسطيني تحمل رشاشا ومصرّة على المضي قدما نحو الأمام،  رغم أنّ ضابطين إسرائيليين يلقيان القبض عليها بأسلحتهم المدججة، ورسم الفنان وجههما على شكل هياكل عظمية فظيعة، كما كانا أقل طولا من المرأة الفلسطينية، بينما خلفية الجدارية المشكلة من الأبيض والأسود كانت عبارة عن هياكل عظمية بشرية مرمية أرضا، فضّل والفنان استخدام تقنية السحب الرقمي، كما أراد من خلال هذا العمل أن ينبّه للمعاناة الحقيقية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، وهي الإبادة الجماعية، وقد حذّر الفنان من تمييع هذا القتل في وسائل الإعلام من خلال تقديمه كروتين يومي.

الفنانة فلة تمزالي طهاري فضّلت الغوص في عمق المجتمع الجزائري من خلال المرأة، لذلك رسمت ثلاث لوحات ضخمة بألوان مائية على القماش بعنوان "سوق النسا"، تقدّم فيها المرأة المغلوبة على أمرها التي لا تعدو صوت عورة أو مجرد جسم لا يجوز له ما يجوز لغيره، لذلك تعمد المرأة إلى التنفيس من خلال فضاءات خاصة هي بمثابة الركن القار في التقاليد الجزائرية والمتعلقة بطقوس الحمام، حيث ترفع المرأة عنها الحواجز والعقد اتجاه جسدها المسبب لمشاكلها وتعيش الانطلاق دون أن يوبخها أحد، وبذلك تحقّق نوع من التحرّر من خلال دردشة نسائية عفوية تعبّر عن مدى التذمر من الحياة ومشاكلها التي لا تبدو لها نهاية. في اللوحة الأخرى المكمّلة وبنفس لباس الحمام "الفوطة" و"البنيقة أو الريحية" ذات اللون الوردي المؤنث، تخضع المرأة الشابة لتعليمات المرأة العجوز التي غالبا ما تكون الحماة التي لا تطلب إلا مزيدا من العمل لتختار الفنانة أدناه، وهو مسح البلاط بعد "التحميمة".

واختارت فنانة أخرى وهي باية بن شيخ الفرقون، بدورها، الذهاب نحو هذا العمق الاجتماعي تحت عنوان "أول خرجة"، وفيها رصدت واقعا اجتماعيا آخر متعلّقا بالطفل الذي لا يخرج إلى العالم مع أبيه إلا بعد المرور على بعض الواجبات، منها "التحفيفة" أي حلق الشعر وفي لوحة مجاورة تعرض عملية "الختان". في جانب الصور الفوتوغرافية، حضر الفنان أرسلان بسطاوي من خلال "نساء سيدي الهواري" اللواتي يعشن ظروفا صعبة مع صغارهن داخل بيوت ضيقة وعتيقة بعضها مهدد بالانهيار، لكن وسط هذا الضيق توجد الحياة التي تستمر بنسائها "الفحلات" وأغلبهن أمهات يتغلبن على كل الصعاب ويتركن شبابيك البيوت مفتوحة للشمس تدخل لتحمل المزيد من الأمل والقوة. تضمن المعرض أيضا لوحات للفنان مهدي جليل الذي خصّص مساحة للتعايش والتكامل بين المخلوقات، منها الإنسان والطير من خلال صورة شعرية راقية ومعبرة .

من جهته، وقّع الفنان يوسف كراش بلمسته السحرية صورا فوتوغرافية عن مدن عبرت ذاكرة آلته للتصوير، فكانت العاصمة الجزائر وبجاية وتونس الخضراء وبماكو، ولم يتقيّد الفنان في كلّ ذلك بالصور السياحية المألوفة أو المواقع الجامدة، بل جعل حياة هذه المدن تبدو كما هي في يومياتها خاصة في الأماكن الشعبية التي تعج بأهل البلد، ففي الجزائر تبدو الأزقة والساحات وما تحويه من خصائص المعيش الجزائري حتى عند الأطفال بعض الصور واللقطات تبدو عفوية وطريفة، مما جعل صبغة المصداقية تطفو فيها وتشد الناظرين، بجاية لا تقل حضورا بتنوع مشاهدها وحياتها المفتوحة على البحر والجبل، وبعيد تظهر باماكو عاصمة مالي بسكانها الذين لبسوا العصرنة وشابهوا غيرهم، خاصة الشباب منهم، وفي المقابل كان هناك البسطاء الذين هم جزء محرك لدواليب هذا البلد الشقيق.

تعتبر لوحات الفنان جمال أفانا موقفا واضحا منتقدا لبعض الظواهر الاجتماعية السلبية التي نالت من سيرورة الحياة نحو الأفضل فرسم، مثلا، في ثلاث لوحات عملاقة امرأة شبه عارية كتبت بجانبها "أنا هنا"، وفيها أيضا رقم هاتف كإيحاء عن رذيلة الدعارة التي لها أوجه متعددة، وفي اللوحة المجاورة نجد في مكان "شبه العارية" برميل بترول، والتفت أسامة بنني إلى مواقع محطات البنزين في بعض المناطق من خلال الصور الفوتوغرافية، من ذلك تلك المهجورة التي أمامها أكوام التراب وبقايا البناء أو تلك التي كتبت عليها لافتات المطاعم وغيرها كرمز للتناقض. احتوى المعرض أيضا المجسمات والمنحوتات الفنية بعضها صور يوميات الصيادين البسطاء في الموانئ الصغيرة، خاصة بغرب العاصمة، وهي من ابتكار فاطمة شافع، ومجسمات أخرى لمحمد بورويسة ترصد الجانب الحضري في المدن، وأخرى مجسمات للجزء العلوي من جسم الإنسان وغيرها كثير. للتذكير، فإن المعرض يعتبر الطبعة الثالثة التي تضم أعمال فنانين، أغلبهم شباب،  وستستمر إلى غاية 21 ماي المقبل مع تنظيم بعض اللقاءات مع الجمهور من خلال مواعيد خاصة وموائد مستديرة.