المرجعيات المشتركة بين الجزائر وموريتانيا
قرون من التفاعـل والعـطاء الحـضاري المثمر
- 148
احتضنت القاعة الكبرى "آسيا جبار" ندوة علمية فكرية، أوّل أمس الإثنين، تناول فيها باحثون وأكاديميون من الجزائر وموريتانيا والصحراء، موضوع "المرجعيات المشتركة"، محاولين تسليط الضوء على أبرز الروابط التاريخية والدينية والثقافية التي تجمع بين البلدان الثلاثة، خاصة في فضاء الانتماء المغاربي المشترك.
في هذا السياق، قدّم الدكتور محمد يحيى باباه من موريتانيا مداخلة بعنوان "موريتانيا والجزائر: قرون من التفاعل والعطاء الحضاري المثمر"، قدّم من خلالها رؤية تحليلية معمّقة حول الجذور الثقافية والروحية التي تربط الشعبين. وأوضح أن العلاقة بين الجزائر وموريتانيا لا يمكن اختزالها في حدود التواصل بين ثلاث هويات متجاورة، بل هي في حقيقتها انتماء واحد، يستمد جذوره من مرجعية حضارية وإسلامية موحّدة.
وبيّن الدكتور باباه أن الثقافة الإسلامية في بلاد شنقيط، كما في الجزائر، تستند إلى ثلاثة أبعاد كبرى، شكّلت ملامح الهوية الفكرية والدينية في الفضاء المغاربي، هي البعد العقدي الأشعري الذي يجمع بين الإيمان والعقل، والبعد الفقهي المالكي الذي يوازن بين النص والمصلحة، وكذا البعد الصوفي الجنيدي الذي يمنح التجربة الروحية عمقها الإنساني.
وأوضح أنّ هذه الأبعاد تمثل المحاور الثلاثة الأساسية للثقافة الإسلامية، الأصولي العقدي، والعملي الفقهي، والروحي اللاعقلي، وهي التي كوّنت ما أسماه بـ "البنية العقلية المشتركة" لشعوب المنطقة. كما أكّد أنّ الزوايا والمدارس العلمية في الجزائر وبلاد شنقيط، كانت عبر القرون جسورا للمعرفة والتواصل الروحي، تخرّج منها علماء ساهموا في نشر قيم الوسطية، والتسامح، والإصلاح في المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء. وختم الدكتور باباه مداخلته بالتأكيد على أن هذه المرجعيات العقدية والعقلية تمثل، اليوم، أساس وحدة الوعي المغاربي، وتؤهل الجزائر وموريتانيا لمواصلة دورهما في تعزيز الحوار والتكامل الحضاري انطلاقا من تاريخ طويل من التفاعل، والإشعاع الثقافي المشترك.
وفي مداخلة ثانية، تناول الأستاذ حمدي علال الداف موضوع "دور الثقافة في المقاومة وحماية الهوية"، موضحا أنّ الثقافة ليست ترفا فكريا، بل سلاح فعّال ضد الاستعمار حين تُوظَّف عناصرها الجوهرية توظيفا صحيحا. وأشار إلى أن المحتل حين يسعى لإخضاع الشعوب، يبدأ بمحاربة لغتها وثقافتها؛ لأنها تمثل روح الأمة، وذاكرتها الحية. وبيّن أن الثقافة تمتلك أدوات مادية وغير مادية تمتد من خيمة الشعر والحكم والأمثال إلى الشعر الملتزم، والأغنية، والمسرح، واللهجة الحسانية التي رآها حاملة لروح المقاومة، ووسيلة لحفظ الأصالة.
كما شدّد على أن نجاح المواجهة الثقافية مرهون بمدى وعي الشعوب بقيمة تراثها، وتمسّكها بعاداتها وتقاليدها في مواجهة محاولات التذويب. أما الدكتور عبد المجيد جاعة من جامعة تندوف، فقدّم قراءة ثقافية معمّقة في مفهوم البنية المركزية المشتركة بين الجزائر وموريتانيا، مبرزا أن العلاقات بين البلدين تجاوزت حدود الجغرافيا، لتتحول إلى نسيج إنساني وثقافي موحّد. وأوضح أن هذا التفاعل أنتج منظومة دلالية غنية تتجسّد في الفضاء الحسّاني، الذي يُعد نموذجا حيا للوحدة الثقافية المغاربية، حيث تتداخل الرموز والأنساق، لتشكل فضاء جامعا لتجارب الوجود والمعنى.
وبيّن الدكتور جاعة أن مفهوم "البنية المركزية" هو الذي يمنح الثقافة استمراريتها، ويديم حضورها؛ لأنها تجعلها قادرة على تجاوز الحدود السياسية نحو فضاء إنساني أرحب وأعمق. واختُتمت الندوة بمداخلة الدكتور حاج أحمد عبد الله، الذي تناول موضوع الأنساب القادرية التي تربط بين أعلام الجزائر وموريتانيا، موضحا أن هذه الصلات الصوفية مثلت عبر التاريخ جسورا روحية متينة، ساهمت في توحيد الوجدان الديني، ونشر قيم المحبة والعلم والتسامح.
وقال إن الطرق والزوايا القادرية لم تكن مجرّد مؤسسات دينية، بل مراكز إشعاع حضاري حافظت على وحدة الوعي المغاربي في أزمنة الاضطراب، وجعلت من الروحانية الإسلامية قاعدة للتقارب الإنساني والثقافي بين الشعبين. وقد كشفت هذه المداخلات المتكاملة عن رؤية فكرية موحّدة، تؤكد أن العلاقة بين الجزائر وموريتانيا ليست مجرد تفاعل تاريخي أو تبادل ثقافي، بل مشروع حضاري مستمر، يقوم على وحدة المرجعية الإسلامية والهوية الثقافية المشتركة. فالثقافة – كما خلص المشاركون – ليست ذاكرة الماضي فحسب، بل قوة فاعلة في بناء المستقبل، تربط بين الوعي والمقاومة، وبين التاريخ والإنسان، في فضاء مغاربي واحد، يتنفس قيم الأصالة والتنوير.