"الإبداع وحوارية الفكر والتراث" بقصر "رياس البحر"

قراءة في تجارب نهضوية رائدة

 قراءة في تجارب نهضوية رائدة
  • القراءات: 770
مريم. ن مريم. ن
نظّم المقهى الأدبي بمركز الفنون بقصر "رياس البحر" أوّل أمس جلسة فكرية بعنوان "الإبداع وحوارية الفكر والتراث"، تطرّقت إلى قضية مدى ارتباط التراث بعملية الإبداع وكذا عرض تجربة مشاريع النهضة في تاريخ الجزائر المعاصر.
من بين ضيوف هذه الجلسة، الدكتور مولود عويمر الذي قدّم كتابيه القيّمين "تراث الحركة الإصلاحية في الجزائر" و"مالك بن نبي رجل الحضارة"، وأشار إلى أنّ الأوّل عبارة في أساسه عن مجموعة مقالات جمعها وأراد أن يعطي لها صفة التراث وليس آثارا أو أعمالا مثلا، كون ما أنتجه رعيل هؤلاء العلماء يمثّل عصارة العقل الجزائري وما أنتجه من أفكار وآراء هي بنت البيئة الجزائرية، وهي أيضا تناول قيّم ومشهود لقضايا إنسانية بطرح ومعالجة عالمية تجيب عن كلّ أسئلة المجتمعات الحديثة وتتناول اهتماماتها المشروعة والمطروحة من عدالة وحرية وعلم وغيرها.
أمّا كتاب "مالك بن نبي رجل حضارة"، فقد أوضح مؤلفه الدكتور عويمر أنّه بدأ إنجازه عام 2001 ليضمّنه مجموعة من الدراسات والبحوث والمحاضرات والملتقيات الدولية الخاصة بهذا العالم الجزائري ذي الصيت العالمي، كما خصّص جانبا من الكتاب لترجمة حياته، أي أنّه أسهب في التعريف به مع طرح أهم القضايا التي اشتغل عليها منها ظاهرة التاريخ ومفهوم الإسلام عند الغرب وغيرهما.
أكّد الدكتور عويمر أنّ كتابه صدر في طبعتين، وفي الطبعة الثالثة، التزم ببعض التنقيحات والإضافات تناول فيها قضايا أخرى بحجم مضاعف وقد فتحت بهذا الخصوص نقاشات ثرية. من جهة أخرى، أكّد المحاضر أنّ الكتاب موجّه أساسا لجمهور النخبة العربية والإسلامية المثقفة وهو دليل ـ حسبه - على مدى قدرة العقل الجزائري على طرح وبناء أفكار جديدة وعلى صنع معالم مشاريع نهضوية كبرى.
أثناء الحديث عن قدرات العقل الجزائري النخبوي، فتح الدكتور عويمر قوسا ليقول "لدينا الكثير من الأسماء الفكرية الثقيلة والمهمة التي فاقت وتجاوزت بكثير بعض الأسماء الفكرية والإصلاحية في العالمين العربي والإسلامي، وقد اكتشفت منها حوالي خمسين شخصية من تاريخنا الحديث أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الإمام بن باديس ومولود قاسم والدكتور عروة وشريط، ففي التجربة الفكرية الجزائرية نجد العمق والاشتغال في هدوء وصمت وعلى المدى الطويل". وبالمناسبة، سرد المحاضر بعض التجارب الرائدة عند بن نبي وبعض تنبؤاته أيضا منها الريادة التي ستحقّقها الدول الإسلامية الآسيوية وانهيار المنظومة الاشتراكية وغيرها.
من جهة أخرى، وفيما يتعلّق بالتجربة الإصلاحية، استعرض المحاضر بعضا من تراث وتجارب العلاّمة ابن باديس خاصة بالجامع الأخضر الذي عصرن فيه التعليم الديني وقسّمه إلى أطوار ومراحل وتبنى تعليم البنات في زمن لم يكن التعليم متاحا حتى للذكور وكان يستعد لإرسال وفد من المتفوّقات لمواصلة دراستهن بدمشق سنة 1939.
بعدها، تقدّم الدكتور مشري بن خليفة من جامعة الجزائر للحديث عن "علاقة الإبداع بالتراث"، تناول فيه أهمية التراث، خاصة إذا ارتبط بالوسطية متوقّفا عند تراث ابن باديس ذي المنظور الجزائري والذي تعرّض للتهميش والإقصاء بعد الاستقلال حين صودرت جمعية العلماء، وبالتالي أدّى ذلك الفراغ إلى استيراد أفكار من خارج المجتمع الجزائري، وهو دليل أيضا على عدم اهتمامنا بتراثنا الوطني رغم قيمته الثمينة وهذا راجع -حسب المحاضر - إلى أنّنا لم نستوعب بعمق أهمية استغلال التراث الوطني وهو ما حصل تماما في باقي الدول العربية للأسف.
من جهة أخرى، أشار المحاضر إلى أنّ مقاربات التراث عندنا كانت في الغالب بدافع إيديولوجي لا غير، مؤكّدا أنّ التراث العربي ومنه الجزائري بعث وخضع للدراسة على يد المستشرقين الأوربيين لكن ذلك بقي ضمن قراءة ورؤية استعمارية، بعدها جاءت المقاربات اليسارية لما بعد مرحلة التحرّر الوطني التي استغلت التراث الإسلامي وقسّمته إلى يمين ويسار وإلى تنوير ورجعية، ثم جاءت مرحلة أخرى وهي قراءة التراث من منظور إسلامي، لكن كلّ تلك القراءات والتجارب أثبتت فشلها لأنّها تبنّت تجزؤ التراث ولم تعد قراءته كما هو بإيجابياته وسلبياته.
عن علاقة التراث بالإبداع، أشار الدكتور بن خليفة إلى أنّها مرّت بعدّة مراحل تمثّل بعضها في تغييب الذات، وبالتالي استيراد تراث الآخر، فمثلا بالنسبة للشعر ظهرت القصيدة الحرة (الحديثة) في فترة الأربعينيات والخمسينيات من خلال جيل اكتشف التجربة الشعرية عند الآخر، واكتشف معها استخدام التراث المتمثل في الأساطير اليونانية والرومانية كرمز ودلالة على الواقع المدمّر ما بعد حرب 45 وبالتالي حاول الإنسان الغربي أن ينهض ويتجاوز الدمار ولو نفسيا وأدبيا باللجوء إلى الأساطير كجزء من خصوصيته الثقافية، وهكذا امتدت التجربة إلينا فوقعت ـ حسب المحاضر- هجرة نص من الغربية إلى العربية، وبالتالي حاول هذا الجيل العربي الذي قاده السياب، استغلال نفس التراث الغربي لكن ذلك لم يرق للقرّاء لتتم المراجعة وإدراك أنّه لا شعر برموز الآخر، فحوّل الاتّجاه إلى الأساطير البابلية والآشورية وتم ترميم الذات العربية.
في مرحلة أخرى موالية، تمّ الالتفات إلى التراث الصوفي ليصبح جزءا من تجربة الإبداع العربي المتصدي للراهن المرّ، كذلك الحال مع الرواية العربية التي انطلقت في بداياتها بإنتاج تاريخي ذي أسلوب روائي واستمر ذلك حتى ظهور نجيب محفوظ الذي استغل بدوره التراث ووظّفه. وبعده جاء جيل جديد أراد أن يخرج من عباءة نجيب محفوظ منه الروائي جمال الغيطاني الذي استحضر في إحدى رواياته التراث المملوكي ليسقطه على الراهن العربي. وتمكّن هذا الجيل من إنتاج التاريخ سرديا وأدبيا وبرموز ودلالات وأحداث تقرأ الواقع. كما استعرض المحاضر بالمناسبة تجربة واسيني الأعرج وسعد الله ونوس خاصة فيما يتعلّق بطرق الحكي المختلفة.
استغل الأستاذ بن خليفة تدخله ليقول "قبل قراءة التراث، علينا أوّلا جمعه ودفعه إلى الأمام ليصبح مرجعية لإسهامات الأجيال القادمة". ومن جهة أخرى، أشار المتحدّث إلى أنّ النص الجيد هو الأصل ولذلك لابدّ من تجاوز التصنيف الكلاسيكي لتراثنا العربي من جاهلي وعباسي وانحطاط وحديث فكم من نص جاهلي يحمل معاني الحداثة كما يجب الالتزام بطرح العمق الذي لا يزال مغيبا في تراثنا وثقافتنا.
تقدّم بعدها القاص الشاب محمد الكامل بن زيد، وهو رئيس فرع اتّحاد كتاب بسكرة وصاحب دار نشر، ليقدّم بعض إصداراته وقبلها عرّج على مساره الأدبي الذي تأثّر فيه بوالده الذي يعدّ من أعمدة رجال التعليم ببسكرة، والذي حمل معه من القاهرة مكتبة ساهمت في تفتق ملكة الشعر والرواية عند محمد، وهكذا ومنذ سن الـ15 سنة، بدأ ينشر قصائده عبر جريدة "المساء" ليعيش بعدها صدمة عاطفية فتحوّل إلى الرواية من خلال "تقطعة أخيرة لشهيد الحب". وتتابعت رواياته وكّرمته على إثرها جمعية "الخلدونية" ووزارة الثقافة وتحصّل على عدّة جوائز منها جائزة "علي معاشي".
تحدّث القاص أيضا عن المشهد الحي للنشاط الأدبي بولايته وأهم المواعيد المنتظرة منها خيمة الشعر، كما تحدّث عن ريادة المنطقة في الطباعة بالعربية منذ مطلع العشرينيات، ومن بين الأعمال التي أحضرها محمد الكامل مثلا "ممنوع الدخول"، "همس الهمس" و"الأعمال غير الكاملة، الذين يأكلون الخبز ويمشون في الشوارع" والتي وصفها بأنها حديث عن البسطاء منهم المجنون والمعلم والطبيب.
أما القاص سعدي الصباح، فقدّم جزءا من سر البيت المفتوح كتجربة إبداعية ناضجة.